بيان المعتبر في الكيل
مسألة:
قال: والمعتبر في كيل التمر ووزنه البلدان.
ووجهه أنا وجدنا الشرع فيه تابعاً للعرف، لأن الشرع لم يرد بوزن شيء مما كان العرف فيه قبل الشرع ألا يوزن. وكذلك لم يرد بكيل شيء مما كان العرف فيه قبل الشرع ألا يكال، فعلمنا أن الشرع جاء بحسب العرف في باب الكيل والوزن.
فإذا ثبت ذلك وجب أن يجري الحكم في هذا الباب بحسب عرف البلدان كما قلنا ذلك في الإيمان.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في التمر: (مثلاً بمثل كيلاً بكيل).
قيل له: هو محمول على البلد التي عرف أهل8ا في التمر الكيل لما بيناه.
ويوضح ما بيناه ما أجمعوا عليه أن كل بلد له عرف يعتبرونه في النقد، وأجمعو أنه إذا قال البائع للمشتري بعتك هذا الشيء بكذا درهماً على أنه محمول على ذلك النقد، وأن النقد الذي يتعامل به عرفاً إذا كان مختلفاً كاتن البيع فاسداً إذا لم يعين النقد، فإذا وجب أن يتبع حكم الشرع في باب النقد العرق وجب أن يكون ذلك حكم الكيل والوزن، لأن النس قد خلوا واختيارهم في الكيل والوزن كما قد خلوا واختيارهم في النقود.
فإن قيل: فكيف يجوز أن يحل بيع في بلد ويحرم في بلد؟
قيل له: كما يصح بيع في بلد ويفسد في بلد، ويقع الحنث في لفظ وقول لواحد، ولا يقع لآخر الأمر يرجع إلى العرف والعادة.
على أن أبا حنيفة ذهب فيما يختلف حالة في البلدان في الكيل والوزن أن المعتبر به العرف خلا الأشياء التي كانت بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم توزن أو تكال. وهذا مما يمكن أن يحتج به عليهم فيما خالفوا فيه.(70/1)


وحكي عن بعضهم أنه قال: إذا اختلف الوزون والكيل في البلدان كان الوزن أولى لأنه أخص المماثلة، وهذا لمعنى له، لأنه لو وجب أن يعمل بأخص المماثلة وجب أن يوزن جميع ما يكال لهذه العلة، على أنهم جوزوا التمرة بالتمرتين، لأن ذلك ممالا يكال عرفاً إلا أن الشرع منع منه، أو كان ذلك مستحيلاً لأنه كان يمكن ان يعمل مكيال صغير لقدر التمرة الواحدة لكنهم اتبعوا العرف.
وكذلك أجازوا التفاضل في المعمولل، ولم يجيزوه في الذهب المعمول والفضة المعمولة لا لأمر سوى العادة الجرية فيه، فيصح بجميع ذلك ما قلنا، وما قاله أصحابنا أقوى من جهة النظر إذ لم يؤد إلى خلاف الإجماع، وقيه نظر والله أعلم.
جناس اللحوم
مسألة:
قال: واللحوم مختلفة الأجناس فلحم البقر جنس واحد، ولا فصل بين لحم الجواميس وبقر الوحش والبقر الأهلي.
ولحوم الضأن والماعز والظبا كلها جنس واحد.
ولحم الإبل جنس مع إختلاف أنواعها.
والقول في الألبان والسمون كالقول في اللحوم.
قلنا في البقر والضأن والإبل: إنها أجناس مختلفة لأن الشرع دل على ذلك لإطلاق أحكامها في الصدقات ولاختصاص كل منها بالإسم الأخص، ولإتفاق كل ما قلنا فيه: إنه جنس منها في تقارب المعنى إليه في بابه، والتفاوت في امنظر والهيئة، فدل ذلك على اختلاف اجناسها.
وأما المعز فإنا جعلناه من جنس الضأن لأن الشرع أجراهما مجرى جنس واحد في باب الصدقات، ولما بينهما من التقارب فيما ذكرناه، وإن لم يشتركا في الإسم الأخص.
قسنا في هذا الظبا على الماعز لتقاربهما يف المنظر والهيئة، وعلى هذه الطريقة يجري الكلام في الجواميس، وبقر الوحش، وكذلك الكلام في الإبل.
فإذا ثبت ذلك وجب أن يلحق بها لحومها وألبانها وسمونها لأنها جزء منها، فتجري مجرى أبعاضها.
ألا ترى أن خبز البر وخبز الأرز وخبز الضعير كانت أجناساً مختلفة لكونها من حبوب مختلفة، فكذلك اللحوم والألبان والسمون.(70/2)


فإن قيل: فإن قيل: قد اشتركت اللحوم في الإسم الأخص، وكذلك الألبان والسمون فهلا جعلتم كلاً منها جنساً واحداً؟
قلنا: كما أن الخبز وإن اشترك في الإسم الأخص لم نجعله جنساً لاختلاف أجناس ماهو منها، وكذلك اللحوم والألبان، لأن جميع ذلك فروع لأصول مختلفة فوجب أن يعتبر بأصولها.
على أن الشرع جعل أصولها أجناساً مختلفة، فكان الحاقها بالأصول أولى من إلحاقها بالفروع بحكم الإجتهاد، ولأن النص أولى من الإجتهاد، فعلى هذا لا بأس ببيع لحم البقر بلحم الضأن والإبل، ولحم الإبل بلحم متفاضلاً يداً بيد، ولا يجوز بيع بعضها ببعض نسأ، وهذا مما قد مضى بيانه فلا وجه لإعادته.(70/3)


بيع الحيوان بعضه ببعض
مسألة:
قال: ولا بأس ببيع الحيواان بعضه ببعض مثلاً بمثل، ومتفاضلاً يداً بيد، ولا يجوز بيع بعضه ببعض نسأ، ولا فرق في ذلك بين ن يكون الحيواان جنساً واحداً أو أجناساً مختلفة.
أما إذا كان الحيواان جنساً واحداً فإنا أجزنا بيع بعضه ببعض مثلاً بمثل ومتفاضلاً؛ لأن فيه أحد وصفي علة الرا، وهو الجنس، وليس فيه الوصف المضموم إلأى الجنس، ولا يصح فيه الكيل والوزن، والجنس عندنا إذا تعرى عن الكيل والوزن لا يمنع التفاضل على ما مضى القول فيه.
وقلنا: إنه يجوز يداً بيدٍ ولا يجوز نسأ لوجهين:
أحدهما ـ أن أحد وصفي علة االرا عندنا وعند أبي حنيفة إذا تعرى عن الوصف الثاني حرم النسأ.
والثاني ـ أنا لا نجيز السلم في حيوان على ما نبينه في باب السلم.
ويدل على هذه الجملة ما روي أن رجلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله أنبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: (لابأس إذا كان يداً بيد)، فأجاز صلى الله عليه وآهل وسلم شرط أن يكون يداً بيد، وهذا نص فيما ذهبنا إليه. وأما إذا اختلف جنس الحيوان فلا بأس ببيع بعضه ببعض مثلاً بمثل ومتفاضلاً، لأنه ليس فيه شيء من أوصاف علة الربا لا الإتفاق في الجنس، ولا الكيل ولا الوزن، فلم يكن في جواز بيع بعضه ببعض متفاضلاً أشكال.
ومنعنا بيع بعضه ببعض نسأأ بوجه واحد، وهو لما ثبت من أنه لا يجوز السلم في الحيوان على ما سنبينه.
بيع مالا يكال ولايوزن مع الإتفاق في الجنس
مسألة:
قال: وإذا اتفق الشيئان في الجنس ولم يكونا مكيلين ولا موزنين جاز بيع بعضه ببعض يداً بيد مثلاً بمثل ومتفاضلاً، ولا يجوز نسأ كنحو الرمان والسفرجل وغيرهما.
ولا بأس أن يبتاع رمانه برمانتين يداً بيد وسفرجلة بسفرجلتين يداً بيد، ولا يجوز ذلك نسأ، وكل هذا قد مضى بيانه فلا غرض في إعادته.
النهي عن بيع الحب القائم بالحب والمحصود وبيع المحافلة
مسألة:(71/1)


قال: ولا يجوز أن يشترى زرع من بر محصود في سنبله ببر سواه، ولا أن يشترى اللَّبن الرائب بالزبد إلا أن يكون الزبد الذي في اللبن أقل من الزبد المشترى به اللبن، أو كان ما يجرد من السنبل عن البر له قيمة فيجب أن يكون سبيله سبيل بيع اللبن الرائب بالزبد في أن البيع يفسد متى لم يكن البر المشترى به أكثر من البر الذي في السنبل، فإن كان أكثر من ذلك صح البيع.
ما ذهبنا إلي في اللبن والزبد أكثر من الزبد الذي في اللبن به قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، والخلاف منه بيننا وبين الشافعي.
فأما إن كان ما ينفرد عن السنبل مما لا قيمة له فالبيع فاسد على كل وجه، لأنه يكون بيع البر بالبر جزافاً وهو فاسد بالإجماع، والأثر الوارد فيه وهو نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن المحاقلة، وقيل: إنها بيع الحب القائم بالحب المحصود.
وقيل: إنها المزارعة، وهما لايتنافيان إذ لابد فيه من اعتبار المماثلة.
وأما مسألة الخلاف فوجه ما ذهبنا إليه أن الزبد إذا كان أكثر من الزبد الذي في اللبن كان مقدار ذلك الذي في اللبن من الزبد بمثله من الزبد، والفضل ثمن اللبن.
والدليل على ذلك قول الله تعاالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وقله عز وجل: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
فإن قيل: إنه ربا فيحرم؟
قيل له: إذا اعتبرنا المساواة على ما ذكرنا لم يكن فيه ربا.
فإن قيل: فهلا منعتموه من حيث قيمة الزبد المشترى به اللبن المخيض بمثله من الزبد الذي في اللبن واللبن، وهذا يمنع المساواة التي سححتم البيع بها، لأن الزبد المشترى به إذا قسم على ما قلناه لم يمتنع أن يكون الزبد يلاقي الزبد مع الزيادة والنقصان، كرجل اشترى حنطة وشعيراً بأرز وسمسم أن ما يشتري به من الأرز والسمسم يقسم على قيمة الحطة فلا تحصل المساواة؟(71/2)

35 / 149
ع
En
A+
A-