قيل له: نجعل علة النسأ أحد وصفي العلق في قبيل المثمنات، أو يجوز تخصيص العلة فليس ببعيد على أوضاعنا، أو نقول في قبيل ما يتعين، فأما المنع من بيع الذهب والفضة بعضه ببعض فلا يقال، لأنه إجماع منصوص عليه فلا نقيص عليه سواه.
فأما الأمر المضموم إلى الجنس فعندنا أنه الكيل أو الوزن، ونو قول زيد بن علي، والمروي عن جعفر بن محمد، ولا أعرف فيه خلافاً، بين علماء أهل البيع عليهم السلام، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك: هو الإقتيات.
وقال الشافعي: هو الأكل.
والذي يدل على صحة قولنا ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روى أبو بكر الجصاص: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم عليه تمر من خيبر فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا والله يارسول الله إنا نشتري الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تفعلوا ولكن مثلاً بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذاا وكذلك الميزان).
فأما المنع من بيع الذهب والفضة بعضه ببعض فلا يعلل لأنه أجماع منصوص عليه ولا نقيس عيه سواه,
وروى أيضاً أبو بكر بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يصح صاعان بصاع ولا درهمان بدرهم).
ورى بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لاتبيعوا الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين ولا الصاع بالصاعين، فقام إليه رجل فقال: يارسول الله أنبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس إذا كان يداً بيد).
فدلت هذه الأخبار على صحة تعليلنا بالكيل والوزن.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لاتبيعوا الصاع باصاعين)، قد علمنا أن المراد به ليس هو بيع الآلة المخصوصة، وإنما المراد به ما يكال بها، ليكون تحصيل هذا الكلام المنع من بيع ما يكال مثلاً بمثلين.(69/4)


وكذلك قوله صلى االله عليه وآله وسلم: (وكذلك الميزان)، ليس المراد به عين الموازين، وإنما المراد به مايوزن، فأوجب ذلك المنع من بيع ما يكال بما يكال إلا مثلاً بمثل، وما يوزن بما يوزن إلا مثلاُ بمثل، يدا بيد، فبان صحة تتليلنا.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل، فهلا دلكم ذلك على أن العلة هي الأكل على ما قلتم في الكيل والوزن؟
قيل له: لفظ الطعام يتناول شيئاً مخصوصاً من المأكولات من جهة العرف، ولايتناول السقمونيا والصبر، وضحم الحنظل، وما جرى مجراه، ألا ترى أن سوق الطعام لا يستعمل في صنف الصيدلانيين، وكذلك سوق الفواكه فبان أنه يتناول هذه الأجناس المنصوصة التي يقع الإقتيات بها.
وفي الحديث: (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلاً بمثل)، وكان طعامنا يومئذٍ الشعير.
وروي عن أبي سعيد الخدري: (كان طعامنا التمر والزبيب والشعير)، كان طعامنا لم يجب أن يستمر اللفظ في كل مأكول من الأشربة والفواكه والأدوية ونحوها ووجب اختصاصه بما بيناه، وذلك مما لانأبى وجوب الربا قيه.
فإن قيل: فأجرت اسم الطعام على الماء؟
قيل له: ذلك محمول على سبيل التجوز، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم محمول على الحقيقة.
والحقيقة من طريق عرف اللغة هو ما ذكرناه.(69/5)


على أنها إنما سمته طعاماً لمقارنته التمر، كما قالوا: الغدايا والعشايا، وإن كانت الغداة لا تجمع على الإنفراد غداياً، فكذلك الماء لا يقال فيه على الإنفراد: إنه طعام، وكان شيخنا أبو الحسين بن إسماعيل يستدل على ذلك بقول الله عز وجل في قصة شعيب عليه السلام: (أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم)، فكان يقول: لا يخلو النهي من نأن يكون متناولاً للتطفيف على وجه الخيانة، كما حكى الله عز وجل عن قومه من قولهم: (ياشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، فبين أنهم كانوا نهوا عما كانوا يفعلون في الكيل والوزن على وجه التراضي إلا ما كان ربا فبان أن الربا تعلق بالكيل والوزن.
ومما يدل على أن علتنا أولى من علة سائر المخالفين ـ أن ما جعلناه علة له تأثير في التحريم بدلالة أن زيادة الكيل في المنصوص عليه مع الجنس، وكذلك الوزن فيه مع الجنس يمنع من جواز البيع، وعدم الزيادة فيهما يوجب صحة البيع، وما كان له تأثير في صحة البيع وفسااده أولى أن يكون علة للتحريم مما ليس له ذلك التأثير.
ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم)، فجعل للكيل والوزن تأثيراً في صحة البيع فبان بذلك أن علتنا أاولى، لأنا لم نجد هذا التأثير في علل المخالفين.
يبين ذلك أن المأكولين يتفاوتان في كونهما ماكولين بأن يكون أحدهما خيراً من صاحبه في باب الأكل، وكذلك المقتاتين، ولم يؤثر ذلك في التحليل والتحريم فعلمنا أن ما عللناه أولى من سائر علل المخالفين.
فإن قيل: فالحكم يتعلق بالأكل أيضاً، لأن من اشترى حنطة تفوجدها متغيرة بالعفونة أو نحوها حتى يؤثر ذلك في الأكل كان لصاحبها الخيار في الرد؟(69/6)


قيل له: ذلك خيار الرد، وذلك حكم كل ما أدى إلى نقصان القيمة مأكولاً كان أو غير مأكول، على أن لهذا التأثير مع أنه لا يختص بالأكل تأثيراً في خيار الرد، لافي تحريم البيع وتحليله، فلم يجب أن يكون ذلك معارضااً لتأثير علتنا.
وليس لم أن يتعلقوا بقوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُو الرِّبَا}، لأن الربا يجب أن يثبت أولاً يثبت أولاً ثم يعلق الحكم عليه.
فإن قيل: فإنا نجد النبات حشيشاً لابا فيه، ثم نجده مأكولاً فيه الرا، فعلمنا أن العلة فيه الأكل كما قلنا في العصير: إنا نجده لا شدة فيه وهو مباح، ثم تصير فيه الشدة فيصير حراماً بعد أن كان مباحاً فعلمنا أن العلة فيه الشدة.
قيل له: ومثل هذا يستقيم لنا أن نجده حشيشاً لاربا فيه، ثم يصير مكيلاً فيحصل فيه الربا، فعلمنا أن الكيل علة الربا، على ان الحشيش مأكول لا ربا فيه فبان أن العلة ليست هي الأكل وهذا ينقض علتكم، لأن الحشيش مأكول لا ربا فيه فبان أن العلة ليست هي الأكل.
بيع الجنس بمثل جنسه مع اختلاف أنوعه
مسألة:
قال: ولا يجوز أن يباع كر حنطة بكري حنطة وإن اختلفت أنواعهما، ولا بأس بكري شعير، وكذلك القول في الأرز والشعير وسائر الحبوب والتمر والعنب وغيرهما من الفواكه وغيرهما، وهذا مما قد مضى بيانه، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فإذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم يداً بيد). ولأن تحريم التفاضل إنما ورد إذا كان الجنس واحداً، ألا ترى إلى ترى إلى قوله: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، حتى أتى على الأجناس المنصوص عليها، وإذا كان تحريم التفاضل يتناول الجنس الواحد فما عداه يكون على أصل الإباحة.
وهذه الجملة لا خلاف فيها بيننا وبين أبي حنيفة والشافعي وسائر العلماء، ألا مالك فإنه ذهب إلى أنه لا يجوز بيع الشعير بالبر متفاضلاً، وما قدمناه يحجه.(69/7)


ويجب فيما عدا المنصوص عليه مثله قياساً عليه كنحو الأرز والعنب وغيرهما بعلة أنها أجناس مختلفة فوجب أن يحرم بيع بعضها ببعض متفاضلاً. وقياساً على ما أجمع عليه من الذهب والفضة أن بيع أحدهما بالآخر جائز متفاضلاً والعلة أنهما جنسان مختلفان.
مسألة:
قال: والحنطة مع تنوعها جنس واحد، وكذا، وكذا الشعير والتمر والعنب، وكذا من الفواكه والرمان والسفرجل وغيرهما.
يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما ذكر هذه الأجناس قال بعده: (فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد).
وقوله: (بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يداً بيد)، فدل ذلك على أن جميع هذه المذكورات أجناس مختلفة، وإن كان لكل واحد منها أنواع يشتمل عليها الجنس، ولا خلاف أن الذهب والفضة جنسان مختلفان، فإذا ثبت ذلك في المنصوص عليه ثبت فيما عداه من الأرز وغيره من الحبوب والفواكه. والعلة استبداد كل واحد منهما بالاسم الأخص، والإتفاق في تقارب المعنى المقصود إليه، والتقارب في المنطر والهيئة.
ويدل على استبداد كل منه بالإسم االأخص أن تميز أنواعه يكون بإضافة صفة إليه كمء العنب الأبيض والأسود والملاحي، وكذلك التمر وسائر ماقلنا فيها إنها أجناس.
فأما التقارب في المعنى المقصود إليه والتقارب في المنتظر والهيئة فمما لا إشكال فيه، لأن العلم به شرورة فكل ذلك يوضح ماقلناه.
على أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في زكاة الفطر صاع من تمر، أوصاع من شعير، أوصاع من ذرة، أو صاع من زبيب)، يدل على أن كل واحد من ذلك جنس برأسه.
ألا ترى أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر أنواع التمر كالصيحاني والبرني والأزاذ، وكذلك لم يذكر أنواع الزبيب، وإنما ذكر أجناس التمر والعنب وغيرهما.(69/8)

34 / 149
ع
En
A+
A-