واستثنى يحي ما يحتاج الإنسان إليه لقوته وقوت عياله.
إلى نحو ما ذهبنا غليه أشار ابن أبي هريرة فيما حكاه عن االضافعي.
واعتبر أبو حنيفة وأصحابه في الحكرة على ما حكاه أبوالحسن الكرخي أن يشتريه الإنسان في المصر، ويمتنع من البيع، وذلك مما يضر الناس، وإن لم يضر فلا بأس به.
قال أبوالحسن: رواه ابن سماعة، عن أبي يوسف الإحتكار في كل ما يضر بالعامة احتكاره، وهذا قولنا.
والأصل فيه ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه عنه ابن عمر: (من إحتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله عز وجل وبرئ منه).
وعن أبي أمامة قاال:(نهى روسل الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتكر االطعام).
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (جالب الطعام مرزوق والمحتكر عاص ملعون)، وهو لا يجوز أن يكون قاله غلا بنص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه قال: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون.
وروى محمد بن منصور وأبو الحسن الكرخي بإسنادهما، عن علي عليه السلام أنه أحرق طعاماً لرجل كاان إحتكره.
فدل ذلك أجمع على تحريم االإحتكار.
فأما ما ذهبن إليه أبو حنيفة وأصحابه من أنه لا بأس به إذ لم يكن اشتراه في المصر فلا معنى له، لأن العلة فيه هو دفع الضرر عن المسلمين بالحبس عنهم ماهو أقوات لهم، ولا تأثير في ذلك للوجه الذي منه صار الطعام محتكراً، ولأن الأخبار الواردة في هذا الباب لم تفصل في ذلك فصلاً.
فإن قيل: فإذا لم يكن اشتراه في المصر فلم يفعل ما يضرهم؟
قيل له: إذا اشتراه من خارج وحبسه فقد فعل ذلك لأن الضرر على حد واحد سواء اشتراه في المصر أو خارج المصر والأخذ له من ضيعة قد أضر بهم في ترك بيعه عليهم فالضرر حاصل، ولا فصل بين أن يحصل شراؤه من المصر أو غيره في أهنه يؤمر بالبيع، لأن دفع الضرر واحد سواء كان الضرر بأن يفعل ماهو ضرر أو يدعف فعلاً هو ضرر.(68/2)


فأما جوازه إذا لم يكن ضرر على المسلمين فلا أحفظ فيه خلافاً، ولا وجه للمنع منه، إذ وجهه دفع الضرر، وقد قال يوسف صلى الله عليه: ( تزرعون سبع سنين دأبااً فما حصدتم فذروه في سنبله)، فأمر بالإدخار إذا لم يكن فيه ضرر.
وأما استثناء يحي عليه السلام الذي يحتاج إليه لنفسه وعياله، فلأن الإنسان يلزمه دفع الضرر عن نفسه وعن عياله فلا وجه أن يؤمر بمضاره عياله دفعاً للضرر عن غيره، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أبدأ بمن تعول)، وقال يوسف عليه السلام: (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون)، فأخبر عن إخصان الطعام للمجاعة ولم ينكره.
ولم ينص يحي عليه السلام على المدة التي يدخر فيها قوته وقوت عياله والأقرب إلى نحو سنة، أو أدراك الغلة الممنتظرة إن لحق الجدب في بعض السنة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يدخر قوت عياله لسنة.
بيع السكران
مسألة:
قال القاسم عليه السلام في بيع السكران وشرائه: جائز إذا كان يعقلهما، وهو كما قال: لأن البائع من صحة عقوده ثبات عقله، فإن كان يعقل لم يؤثر في ذلك تغير بعض أحواله في صحة عقوده إذا كان يعقل.(68/3)


القول في تلف المبيع قبل القبض
مسألة:
وإذا اشترى رجل شيئاً ثم تلف عند بائعه قبل التسليم فإنه من مال البائع، وهذا لا أحفظ فيه خلافاً إلا ماحكي عن مالك أنه قالك يضمن البائع قيمته.
ويحجه ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن بعت من أخيك ثمراً ثم أصابه جائحة فلا تأخذ منه شيئاً، ولأنا لو ألزمنا البائع قيمة السلعة كان ذلك استحقاقاً يختص عقد البيع، وذلك يوجب أن يكون القيمة مبيعة، لأن الإستحقاق المختص بعقد يوجب كون المستحق مبيعاً، ولا يجومز بيع قيمة في الذمة.
وحكي عنه أنه فرق بين الطعام وغيره لو كانت مبيعة لكان ذلك والقومة يدخل في الربا، لأن القيمة قد تزيد على الثمن، وقد تنقص منه، لأن البيع بينهما لم يتم لأن التسليم هو من شرط اتمام البيع، فإذا لم يقع التسليم لم يتم البيع، فإذا تلف والبيع غير تام في يد البائع فيجب أن يكون تعيين ماله، لأن ملكه عنه لم يزل. وكذلك يده لم تزل عنه.
قال: فإن كان تسلمه من البائع ثم تركه رهناً فتلف فهو من مال المشتري، وذلك أن القبض إذا حصل تم البيع واستقر ملك المشتري وزال ملك البائع، فإذا رهنه عند البائع كان ذلك وسائر الرهون سواء.
قال: وإن وضعاه على يدي عدل إلى أن يأتي المشتري بالثمن فتلف فهو من مال البائع، وذلك أن الباضع لم يسلمه إذ وضعه على يدي عدل لأنه لا يكون خلى بينه وبين المشتري، فلا يكون البيع قد تم كما بينااه في المسألة الأولى.
مسألة:
وإن وكل المشتري البائع يقبضه من يفسه له فقاال: اعزله أو كله إن كان مكيلاً أو نحو ذلك ففعل البائع، ثم تلف كان من مال المشتري.
هذا مبني على أن قبض البائع من نفسه يصح.
ووجهه: أنه ليس بين القابض والمقبض خصومة، فوجب أن يصح قبض االإنسان من نفسه كما أنه لو لم يكن بين المزوج والزوج خصومة جاز أن يزوج الإنسان الحرمة من نفسه. وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ما تلف من مال المشتري.
باب القول في بيع الأجناس بعضها ببعض(69/1)


إذا اتفق الشيئان في الجنس والكيل لم يجز بيع أحدهما بصاحبه إلا مثلاً بمثل يداً بيد، فإن اختلفا في الجنس واتفقا في الكيل جاز التفاضل ويحرم النسأ، وإن اختلفا قيهما جميعاً جاز التفاضل والنسأ.
والقول في الوزن كالقول في الكيل سواء خلا الذهب والفضة فإنه يجوز أن يشتري بهما الموزون معجلاًومؤجلاً غير الذهب بالفضة والفضة بالذهب فإنه يجوز بيع أحدهما بالأخر متفاضلاً إذا كان يداً بيد وأما إذا كان مؤجلاً فإنه لا يجوز مؤجلاً.
والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق شتى وألفاظ مختلفة: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، والفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد، والبر بالبر مثلاً بمثل يداً بيد، والشعير بالشعير مثلاً بمثل يداً بيد، والتمر بالتمر مثلاً بمثل يداً بيد، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد)، رواه عبادة بن الصامت وغيره، وفي بعض الألفاظ: (والفضل ربا)، وفي بعضها: (فمن زاد فقد أربى)، وفي بعضها: (هاوها)، وفي بعض الأخبار: (فإذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم يداً بيد)، وفي بعضها: (قبيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يداً بيد).
وروى زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمر فلم يرد منه شيئاً قال لبلال: دونك هذا التمر حتى أسألك عنه فانطلق بلال فأعطى التمر مثلين وأخذ مثلاً فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: آتنا خبئتنا التي استخبأناك فأخبره بالذي صنع فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحرام الذي لا يصلح انطلق فاردده على صاحبه وأمره أن لا يبيع هكذا، ولا يبتاع ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، والر بالبر مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، والذرة بالذرة مثلاً بمثلا، زاد في المجموع يداً بيد، فمن زاد أو ازدااد فقد أربى).(69/2)


فدلت هذه الأخبار على تحريم التفاضل والنسأ بين هذه الأجناس إذا كان الجنس بجنسه، وعلى تحريم النأ واباحة الزيادة إذا اختلف الجنسان مع الإتفاق في المعنى المضموم إليه.
وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: لاربا إلا في النسية. ويرويه عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يجيز الذهب بالذهب متفضاً يداً بيد، وقد روي عن عدة من الصحبة أن ابن عباس كان قد رجع عن هذا القول.
والإجماع المنعقد على خلاف ذلك يبطل قوله.
ويجوز أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك إذا اختلف الجنسان ليكون موافقاً لما تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، ولما أجمعت الأمة عليه، إذ لا خلاف بينها في هذه الأجناس المنصوص عليها، واختلفوا في ما عداها فذهب كثير من نفاة القياس إلى أنه لا ربا فيما عداها، وأجمع القائسون على خلاف ذلك، وفي من نفى القياس من لا يخالفنا في ذلك، وهم الإمامية.
ويرجعون فيه إلى الظواهر الواردة في هذا الباب كالنهي عن الصاع بالصاعين.
ويبطل قولهم من وجهين ـ أحدهما: هذه الظواهر. والثاني: إثبات القول بالقياس.
فأجمع الفقهاء من مثبتي القياس أن الجنس مراعى في باب الربا.
وكذلك أمر آخر مضموم إليه وإن اختلفوا في ذلك الأمر ماهو فلا خلاف أنه إذا اجتمع الجنس والأمر المضموم إليه أنه يحرم التفاضل والنسأ، ولا أعرف خلافاً في أن الجنس إذا اختلف واتفق الأمر المضموم إلي حرم النسأ وجاز التفاضل لقوله: (فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد)، فأجااز صلى الله عليه وآله وسلم التفاضل لعدم الجنس، ومنع النسأ، فوجب أن يكون ذلك حكم الجنس إذا انفرد، فلا يصح بيع الثوب بجنسه من الثوب نسأ، وبه قال أأبو حيفة.
قال الشافعي: ذلك لا يحرم على انفراده، وقد بينا أنه إذا اختلف الجنس واتفق الأمر المضموم إليه ترتب تحريم النسأ على المعنى المضموم إليه من الكيل أو الوزن.
فإن قيل: ألستم تجوزون بيع الموزون بالنقد مع النسأ؟(69/3)

33 / 149
ع
En
A+
A-