فأما إذا باعها لاعن ضرورة فالأقرب على مذهبنا ما روي عن أبي يوسف أنه يكون عيباً في المبيع، فإن رضي به المشتري صبر حتى تمضي مدة الإجارة، ويسلم وإن لم يرض به انفسخ البيع، وذلك إن تعذر التسليم فيه في الحال بيع العبد الآبق، لأن ذلك مما يتعذر تسليمه من غير توقيت فيجب أن يكون للمشتري الخيار في فسخه، وإن كان علمه حين اشترى ورضي به، والمستأجر يصح تسليمه بعد انقضاء مدة معلومة فتعذر التسليم إنما هو مدة معلومةفهو كالعيب، وفي الآبق لا حد لتعذر التسليم فكأنه ممنوع من تمام البيع، وحكي عن أبي حنيفة أنه ليس للمستأجر نقض البيع، ولكنه إن أجاز البيع كان في ذلك أبطال ما بقي من الإجارة.
قال أبوبكر الجصاص لا وجه لما حكي عن أبي حنيفة أولاً، وذلك أن حق المستأجر يتعلق باستيفاء المنافع، وهو يمكنه استيفاؤها مع بقاء البيع.
وقال أبوبكر: والصحيح ما رواه محمد، عن أبي حنيفة، وهذا غير بعيد، لأنه إذا أجاز البيع فقد أجاز إتمامه وتنفيذه وفي ذلك تسليم المبيع، وإذا رضي بتسليمه فقد رضي بإبطال حق المتفلق به من استيفائه منافعه. وشبهه بمن باع عبداً، فأبق قبل التسليم في أن المشتري إن شاء صبر حتى تنقضي المدة، وإن شاء فسخ الشراء، والأصح عندي ما حكيناه للفرق الذي بيناه.
بيع الصبرة
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً باع عدلاً على أن فيه مائة ثوب أو أقل أو أكثر فوجده المشتري على ما اشتراه كان ذلك جائزاً.
فإن وجده زائداً جاز أيضاً البيع ورد على البائع ما زاد من الثياب وسطاً.
وإن وجده ناقصاً كان البيع منتقضاً.
أما إذا وجده على ما اشتراه فلا خلاف في جواز بيعه.
وأما إذا وجده زايداً فعند أصحاب أبي حنيفة أن البيع يفسد، وحكي عن ابن سريج أنه إن زاد كان الخيار للبائع في تسليم جميعه بالثمن، وفسخ البيع، وإن نقص كان الخيار للمشتري في أن يرضى به بجميع الثمن، أو أن يفصخ البيع.(66/13)
ووجه ما قلناه من صحة البيع في الزيادة أن الذين أفسدوه من أصحاب أبي حنيفة إنما أفسدوه للتفاوت االواقع فيه بدلالة أنه لا خلاف بيننا وبينهم في أن من باع صبرة على أن فيها مائة قفيز بر فوجدها تزيد قفيزاً واحداً أن البيع يصح في المائة، ويرد القفيز الزائد، وإذا كان ذلك كذلك كان يكون الوسط مزيلاً للتفاوت فوجب أن يصح البيع.
ألا ترى أن كل ما قصد فيه رفع التفاوت يقصد فيه إلى الوسط كمهر المثل، وزكاة الماشية أنه يؤخذ فيها الوسط، وما أشبه ذلك.
وإن شئت ذلك قياساً، فقلت: إن البيع تناوله، وصح رفع الزئد مع إزالة التفاوت فأشبه بيع القفزان.
وذكر أبو العباس وجهاً آخر لهذه المسألة، وهو أنه قال: متى وجب حمل بيعات المسلمين وعقودهم على الصحة ما أمكن وجب حمل هذا العقد على أنه باع من الجملة مائة جزء [من مائة جزء]، وجزء شائع، لأنه لو باع على هذا الوجه وصرح به لصح به لصح البيع بالإجماع فيجب حمل العقد على هذا الوجه.
ويجب أن يكون رد ما يرده على سبيل القسمة.
وليس لأصحاب أبي حنيفة أن ينكروا ذلك من حيث لم يتلفظ المتبايعان به لا خلاف بيننا وبينهم أن من باع سيفاً محلياً نفضه بنقرة زائدة على ما في السيف أن البيع يصح ويحمل على أنه باع نقرة بنقرة مثلاً بمثل يداً بيد، وإن الزائد من النقرة باع الحديد به، وإن لم يكن البائعان تلفظا به من حيث صح صرف العقد إلى ذلك فكذلك ما اختلفنا في، ويؤكد ذلك بالظواهر لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وقوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}.(66/14)
فأما ما حكي عن ابن سريج أن البائع مخير بين تسليم الجميع بالثمن، وبين فسخ البيع فلا معنى له، لأن العقد لم يتناول الجميع فكيف يحكم بالتسليم بحق العقد، وليس الزائد مما يصح أن يقال: إنه يدخل في العقد على سبيل التبع كالزوائد التي تحصل من المبيع، أو ماله من الحقوق.
فأما إذا نقص فيجب أن يفسد البيع، لأنه بيع ما ليس عنده الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه وصار ما تناوله العقد مفقوداً فأشب أن يبيع ثوباً ليس بموجود العين فوجب فساده، ولا معنى لما حكي عن ابن سريج من تثبيت الخيار للشتري لأن ما انطوى عليه العقد ليس بحاصل. والتخثيير يصح بعد حصول ما ينطوي عليه العقد.
مسألة:
قال: ولا بأس ببيع الشيء عدداً كل قدر منه بثمن معلوم، وكذلك إذا اشترى ذلك في ظرف، وقد عرف وزنه وطرح قدره كان ذلك جائزاً، وكان أبو حنيفة يقول فيمن اشترى صبرة من طعام على أن كل قفيز بدرهم: إن البيع يصح في قفيز واحد منها.
وقال أبو يوسف ومحمد، إذ العدد في هذا الباب كالكيل في المكيل.
ووجه صحة ذلك أن المبيع مما يجب صحة بيعه، وليس فيه إلا كون جملة الثمن غير معلومة، وهي تصير معلومة بالعدد في المعدود والكيل في المكيل فيجب أن يكون البيع صحيحاً.
دليله بيع التولية وبيع المرابحة. ألا ترى أن من قال: بعتك هذه السلعة برأس المال، أو بربح عشرة يصح بيعه، وإن كان حين وقوع البيع جملة الثمن غير معلومة لأنها تصير في الحال الثانية معلومة فكذلك ما اختلفنا فيه.
وأما بيع الموزون في الظرف بوزن معلوم فيجب أن يصح إذا كان وزن الظرف معلوماً وطرح مقداره، لأنه البيع يكون وزنه معلوماً في أن وزن المبيع يكون معلوماً، لأنه لا فصل بين أن يكون شيء مائة وزن، وبين أن يوزن من غيره مائة وعشرة إذا كان ذلك الغير قد علم وزنه عشرة.
بيع العرصة مع الجدار والسقوف مذارعة
مسألة:(66/15)
قال: ولا بأس ببيع العرصة مع الجدار الميحيط بها مذارعة. فأما السقوف فلا يجوز بيعها مذارعة.
نص في المنتخب على هذا فقال: إذا اشترى رجل عرصة لدار مع الجدار المحيط به كل ذراع بشيء معروف صح الشراء ووجهه ماا قدمناه في شراء الشيء عدداً كل قدر منه بثمن معلوم، ولأن هذا أيضاً يصح شراؤه، وذالك ليس فيه إلا جهالة القدر، وهي تصير معلومة بالذرع فوجب أن يصح.
قال أبو العباس الحني: فإن قال: بعتك على أنها كذا وكذا ذراعاً، كل ذراع بكذا، صح فإن وجدها زائداً كان عليه قسط الزائد من الثمن، وإن نقص بطل، وكأنه رحمه الله شبهه بما نص عليه في المنتخب في شراء الثيابت في العدل كل ثوب بكذا في باب الصحة والبطلان، وليس ذلك ببعيد.
وفصل بينه وبين شراء الثوب في أنه ألزمه ثمن ما زاد، ولم يودب تركه على البائع كما يوجب في الثياب، لأنه علق البيع على الذرعان، وفي الثياب علق البيع على مائة ثوب في العدل، لأنه لو أمر برد الذراع الواحد ربما لم ينفع، فليس كذلك الثوب الواحد فإنه ينتفع به، والله أعلم.
قال أبو العباس الحسني رضي الله عنه: فإن باعه الدار على أنها مائة ذراع فوجدها زائدة وجب البيع، ولم يلزم المشتري شيء للزيادة، قال: كأنه اشترى عبداً على أنه أعور فوجده سليماً، لا شيء على المشتري بسلامة العين الأخرى.
ونص في المنتخب على فساد بيع اسقوف مذراعة، وعلل ذلك بالتفاوت بين الخشبات في الجودة والرداءة، القلة والكثرة والحسن والقبح، وليس كذلك بيع العرصة والجدار فليس فيهما من التقاوت ماهو في السقوف.
قول الرجل لصاحبه بع مني هذا بمثل ما تبيع للناس
مسألة:(66/16)
قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل متاعاً، فقال أخذته منك بمثل ما تبيع للناس كان البيع صحيحاً إن كان صاحب المتاع باع صدراً منه بثمن معلوم على سعر واحد، ولم يكن السعر تغير، فإن كان البائع لم يبف منه شيئاً كان البيع فاسداً لأنه غرر، ولو كان باعه بأسعار مختلفة كان أيضاً فاسداً تخريجاً نص في المنتخب على فساد هذا البيع إذا لم يكن باع منه شيئاً.
وعلل فساده بأن قال: إذا لم يكن باع منه شيئاً يكون الثمن مجهولاً، ونص على صحته إذا علم الثمن بما تقدم من البيع.
وقلنا: تخريجاً إن كان باعه بأسعار مختلفة: يفسد البيع لأن الثمن يعود مجهولاً.
ووجه صحة البيع أن لفظة المستقبل استعملت فيمن كان في الفعل إذا كانت الأفعال كثيرة، وإن كان مضى منها فعل فيقال فلان يصلي، وفلان يزرع، وفلان يخيط، فيكون ذلك مصروفاً إلى الماضي والمستقبل، وإن كان قد مضى كثير منه فيحمل قوله بما يبيع الناس على هذا الوجه، وكان مصروفاً إلى ما مضى لأن عقود المسلمين محمولة على الصحة ما أمكن، وليس يمكن حمل هذا العقد على الصحة إلا على هذا الوجه الذي قلناه، ولا يجوز أن يكون ذلك مصروفاً إلى ما يبيع على الإستقبال، لأن الثمن يكون مجهولاً، ولأنه يؤدي إلى الغرر.(66/17)