ومما يدل على ذلك ما أجمعنا عليه من أن من آلى من امرأته دون أربعة أشهر، لا يقع عليها الطلاق بالإيلاء، وانقضاء المدة، فكذلك من الأربعة الأشهر، والعلة أنه مُولٍ، وكل مولٍ لا يقع طلاقه بالإيلاء، وانقضاء المدة، وليس لهم أن يمتنعوا من إجراء سمة المولي على من آلى دون أربعة أشهر؛ لأنا أردنا المولي من طريق اللغة، ولا إشكال أن الألية في اللغة اسم للحلف، وأن كل حالف مولٍ في اللغة، على أنا لو عدلنا عن اسم المولي إلى اللغة لاتَّسقَ الكلام، وزال الشغب، وأيضاً لما ثبت أن الإيلاء لا يقع به طلاق معجل، لم يجز أن يقع به طلاق مؤجل، قياساً على سائر الأيمان، وعلى سائر ماليس بصريح في الطلاق، ولاكناية، على أن الطلاق لو وقع، لم يكن الموجب لإيقاعه إلا اليمين نفسها، أو انقضاء المدة المحلوف عليها، أو انقضاء أربعة أشهر، ولا يجوز أن يكون الموجب لإيقاعه هو اليمين؛ لأن اليمين لا مدخل لها في إيقاع الطلاق، ولأنها لو كانت توقع الطلاق لوجب أن تطلق المرأة في الحال إذا قال لها: والله لا أجامعك من غير ذكر المدة، ولا يجوز أن يكون لانقضاء المدة المحلوف عليها؛ لأن ذلك لو وجب لوجب أن يقع الطلاق بانقضاء ثلاثة أشهر إذا حلف عليها بانقضاء سنة إذا حلف عليها، ولأن مرور الزمان لا يوقع الطلاق، فكذلك لا يوجب ذلك انقضاء أربعة أشهر، كما لا /182/ يوجبه انقضاء ما زاد عليا أو نقص منها، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن الطلاق لا يقع مالم يوقعه المالك للبضع.
فإن قيل: إن مرور الزمان قد يوقع البينونة، ألا ترى أن من طلق امرأته تطليقة واحدة رجعية تَبِينُ الزوجة منه بانقضاء زمان العدة، فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل زمان الإيلاء؟(59/6)
قيل له: عندنا أن الموقع للبينونة هو الطلاق، وإن وقعت بشرط انقضاء زمان العدة، وقد بينا أن ذلك لا يصح أن يقال في اليمين، فلا يصح أن يقال: إن مرور الزمان شرط فيه، على أن ما كان إجماعاً لأهل البيت عليهم السلام، أو قولاً لأمير المؤمنين عليه السلام، فلا يجوز عندنا خلافه، على أن الأصل أن النكاح ثابت فلا يرتفع إلاَّ بالدليل، فوضح بجميع ذلك ما ذهبنا إليه.
مسألة: [في حبس الإمام للْمُولى]
قال: فإن أبى(1)، حبسه الإمام، وضيَّق عليه حتى يفيء، أو يطلق. وهذا منصوص عليه في (الإحكام) (2). وبه قال الشافعي في أحد قوليه، وله قول آخر، وهو أن الإمام يضيق عليه إن أبى.
ووجهه: ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه كان يقف المولي بعد أربعة أشهر فيقول: إما أن يفيء، وإما أن يطلق.
وفي حديث ابن ضميرة(3)، عن إبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه كان يقول: إذا آلى الرجل من امرأته، لم يقع عليها طلاق، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإما أن يطلق، وإما أن يفيء.
__________
(1) في (أ): فإن امتنع ورأى حبسه الإمامُ حبَسه حتى يفيء.
(2) انظر الأحكام 1/433 ـ 434.
(3) في (ب): ابن أبي ضميرة.(59/7)
وأيضاً لا خلاف أن الإمام لا يُطَلِّق على غير المولي، فكذلك لا يطلق على المولي، والمعنى أنه تفريق بطلاق، وكل تفريق بطلاق لا يلزم أحداً كرهاً، على أنا وجدنا الأصول شاهدة لذلك، وهو أن الحاكم قد يزوج الصغير ولا يُطلِّق عليه، والسيد يزوج عبده عند كثير من العلماء ولا يُطلِّق عليه، على أن الله تعالى جعل الخيار للزوج بقوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}، فلو جعلنا للإمام أن يطلق عليه، كنا قد أوجبنا قطع خياره، وذلك خلاف الآية، على أنه لا خلاف أنه ليس للإمام أن يفيء عنه قولاً، فكذلك ليس له أن يطلق عنه، والعلة أن كل واحد منهما حق على الزوج اقتضاه الإيلاء، فلم يجز أن يتولاه الإمام بغير إذنه، وليس لهم أن يقولوا إن الفيء لا يتأتى منه؛ لأن الفيء بالقول يتأتَّى منه، ولا خلاف أيضاً أن من ضار امرأته بترك الإنفاق عليها أن الإمام لا يطلِّق عليه، فكذلك المولي، والعلة أن له العدول عن الطلاق إلى غيره.
مسألة: [متى يقف الإمام المولى؟]
قال: ولا يقفه الإمام قبل مضي أربعة أشهر، وإن مضت أربعة أشهر ومضى بعدها زمان طويل لم يُرفع إلى الإمام، وقفه الإمام متى رفع إليه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، ولا خلاف في ذلك بين الذين قالوا بالوقف.
والأصل فيما قلناه من أنه لا يوقف قبل مضي أربعة أشهر قول الله تعالى: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}، فلو وقفناه قبل مضي هذه المدة، كنا قد حرمناه ما جعلت الآية له من تربص أربعة أشهر.
__________
(1) انظر الأحكام 1/433 ـ 434.(59/8)
ووجه ما ذكرناه من أنه إذا لم يُرفع إلى الإمام بعد مضي أربعة أشهر، وقفه متى رفع إليه، ثبت أنه حق ثبت للمرأة بعد انقضاء هذه المدة فلها المطالبة به متى شاءت، كسائر حقوقها، وسبيل ما ذكرناه أن يكون للرجل حق على آخر مؤجل إلى شهر، ألا ترى أنه لا يجوز لصاحب الحق المطالبة له قبل مضي الشهر، وله /183/ المطالبة بعد مضي مدة الأجل أي وقت شاء، وأنه متى رفع إلى الإمام، طالبه به، وروى أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى في (النصوص) بإسناده عن علي عليهم السلام أنه وقف رجلاً آلى من امرأته بعد سنة.
مسألة: [في معنى الفيء]
قال: والفيء هو أن يجامع، أو يقول بلسانه: قد فئت ورجعت عن يميني، إن لم يستطع الجماع لمرض، أو سفر. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) ومروي عن القاسم عليه السلام، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وذلك لقول الله تعالى: {فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}، والفيء هو الرجوع، فإذا رجع عن يمينه بالقول، دخل في العموم.
قإن قيل: فهذا يوجب أن الرجوع باللسان يكفي، وإن قدر على الجماع.
__________
(1) انظر الأحكام 1/434 ـ 435.(59/9)
قيل له: هذا هو حكم الظاهر، لكنْ لما أجمعوا على أن الفيء باللسان مع القدرة على الجماع غير كافٍ، قلنا به، وأيضاً لما وجدنا المولي له الخيار بين الفيء والطلاق في إسقاط حكم الإيلاء ، وكان يصح وقوع الطلاق من جهة القول، وجب أن يصح وقوع الفيء من جهة القول، والمعنى أن كل واحد منهما مما جعل للمولي إختياره، وليس لأحد أن يقول : إن قولكم في الطلاق إنه من جهة القول لا معنى له؛ لأنه لا يصح إلا من جهة القول، وما كان كذلك، لم يعبر عنه بأنه يصح، بل يعبر عنه بأنه يجب، وذلك أن الطلاق(1) يصح وقوعه بالكناية دون القول، فصح ما أطلقناه من العبارة، على أنه قد ثبت عندنا وعند أبي حنيفة أنه يقع القول في الرجعة موقع الوطء، فوجب أن يقع ذلك موقع الوطء في الإيلاء، والمعنى أن كل واحد منهما رجوع من الزوج في حكم ما ألزم نفسه في النكاح، وأيضاً لا خلاف أن الحاكم لا يطالبه بالوطء للمرأة في مجلس الحكم، ولا في الحبس الذي معه فيه غيره، وأنه إذا قال: قد فئت، يؤجَّل حتى ينصرف إلى موضعها، فيقع القول إذ ذاك موقع الوطء، وكذلك إذا كان مريضاً أو مسافراً، والعلة أن له عذراً في ترك الوطء وكل مولٍ له عذر في ترك الوطء، قام فيه القول مقام الوطء في اسقاط المطالبة عنه بالفيء.
مسألة: [في الفيء قبل انقضاء المدة]
قال: وإذا آلى الرجل من امرأته أربعة أشهر، ثم أراد أن يفيء قبل مضي أربعة أشهر، ولم يقدر على الجماع، فاء بلسانه، وإن قدر على الجماع، لم يجز أن يؤخر ساعة. وإن كانت المسألة بحالها، لكنْ أراد أن يفيء إليها بعد مضي أربعة أشهر، لم يضيق عليه تأخير الجماع بعد القدرة عليه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، ونص فيه أيضاً على أنه إن كان آلى منها عشرة أشهر، كان القول فيها في هذا الباب كالقول إذا آلى أربعة أشهر.
__________
(1) في (أ): الطلاق وقوعه.
(2) انظر الأحكام 1/435.(59/10)