فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، ولم يستثن حراً من عبد؟
قيل له: لا نسلم أن العبد هو المحيي، لأن كسبه لمولاه، فالمحيي إذا هو السيد ألا ترى أن من استأجر أجيراً على أن يعمر أرضاً يكون المحيي هو المستأجر دون الأجير، لما كان فعله يقع للمستأجر.
فإن قيل: فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (من أعتق عبداً فماله له إلا أن يشترط المعتق)؟
قيل له: هو محمول على المكاتب، وكذلك نقول: أنه لا خلاف أنه لا يملك بالإرث فكذلك سائر جهات الملك، والعلة أنه جهة بما يملك، ولم يجز أن تكون جهة يملك بها العبد. ألا ترى أن الإرث أقوى وجوه الملك، لأنه يصير ملكاً للوارث بغير اختياره فلما لم يصح أن يملك من جهة الإرث لم يصح أن يملك من سائر جهات الملك، والعلة أنه مرقوق.
يدل على صحة ذلك أنه لو خرج من الرق ورث، فبان أن المانع منه هو الرق.
فإن قيل: فالذمي لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الذمي، وهذا لا يمنع من صحة تملكهما الأشياء؟
قيل له: كل واحد منهما من أهل الميراث، لأن المسلم يرث من كان على ملته، ويرث المرتد، والذمي يرث من كان على ملته فلم تخرجه ذمته من أن يكون الإرث جهة تملكه فلا يلزوم ذلك على ما ذكرناه.
فإن قيل: فالمكاتب لا يملك فالإرث ملكاً صحيحاً بوجه من الوجوه، وإن جرى على مافي يده بعض أحكام الملك ألا ترى أنا لا نجيز له ان يطأ جارية يشتريها، وكذلك لو اشترى زوجته لم يوجب فسخ نكاحها فثبت بما بيناه أن العبد لا ملك له فلم يجز أن يتصرف فيما في يده إلا بإذن سيده، وأما إذا أذن له سيده جاز تصرفه فيه، وهذا ممالا خلاف فيه.(65/4)
وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش قال: حدثنا الناصر، عن محمد بن منصور قال: حدثنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا وهب بن سهل الأسدي، قال: حدثنا محمد بن قيس الأسدي، بكار العنزي، قال: ارتفع رجلان إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقال أحدهما: إن غلامي يا أمير أمير المؤمين ابتاع من هذا بيعاً وإني رددت عليه فأبى أن يقبله فقال علي عليه السلام: أتبعث غلامك بالدراهم يشتري لك لحماُ بها من السوق؟ قال: نعم، قال: قد أجزت عليك شراءه.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الأب على الإبن الصغير إلا إذا كان متحرياً لنفعه، وكذلك القول في الوصي نص في كتاب الزكاة من الأحكام على أن للوصي أن يتجر في مال اليتيم طلباً لصلاحه ونفعه، ونص في كتاب الوصية على أنه ليس الأب أن يبيع أملاك ولده الصغير التي هي العقار ونحوها إلا من ضرورة، وكذلك الوصي.
نص في المنتخب على ان أب الأب إذا باع الضيعة على الإبهن الصغير فله إذا بلغ أن يفسخ البيع، ونص فيه في كتااب الشفعة على أن الأب إذا ترك شفعة ابنه الصغير لعدمه لم يكن له إذا بلغ أن يطالب بها، قال: فإن كان تركها، وهو واجد لثمنها من مال ابنه كان له إذا بلغ أن يطالب بها لأن أباه قد ظلمه وترك حقه لغير علة.
قال فيه: وهكذا القول في الوصي إذا ترك شفعة الصغير فهذه المسألة تدل من مذهبه على ماا لخصناه في أول هذه المسألة.(65/5)
ووجهه أن الأب جعلت ولايته على الصغير ثابتة لصلاح الصغير، ألا ترى أن غيره ممن يجوز أن تتوجه عليه التهمة كالأخ والعم لا ولاية لهم في ماله، وهو أيضاً إذا بلغ وصار بحيث يستقل بمصالح نفسه زالت ولاية أبيه عنه، فإذا ثبت ذلك بما بيناه وجب أن تكون ولايته عليه ثابتة فيما يؤدي لإصلاح حاله دون فسادها إذ الولاية على ما بيناه ولاية للصلاح، وليست ولاية للفساد، والوصي في جميع ذلك قائم مقام أبيه، ونائب منابه، فلذلك قلنا: إن حكمه حكم الأب في البيع على الصغير، ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف في أن الأب لو باع من مال ابنه الصغير بدون قيمته بما لا يتغبن الناس فيه أن البيع فاسد، فكذلك ما ذهبنا إليه، والعلة أنه بيع لم يتحر فيه مصلحة الإبن فوجب أن لا يصح من المتولي عليه.
فإن قيل: ألستم تقولون: إن الأب لو أنكح ابنته الصغيرة بدون مهر مثلها نفذ ذلك فما أنكرتم أن ينفذ بيعه عليها، وإن لم يتحر صلاحها؟
قيل له: ليس موضوع البيع موضوع الإنكاح، لأن الغرض في البيع تحصيل الثمن، وليس الغرض في النكاح تحصيل المهر بل لا يمتنع أن يكون صلاحها في أن تتزوج من كفؤ صالح بدون مر مثلها، لأن المعتبر في الإنكاح هو حال الزوج، فبان بما ذكرناه الفرق بينهما.
على أنه لا خلاف أن البيع بدون القيمة على ما حكيناه لا يجوز، فبان به أيضاً الفرق بين الأمرين.(65/6)
بيع المميز المأذون
مسألة:
قال: ولا بأس ببيع المراهق الذي لم يبلغ إذا أذن له وليه.
وهذا منصوص عليه في الأحكام، وبه قال أبو حنيفة.
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}، وقوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وهذه تجارة عن تراض.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}، فأمر بابتلائهم فدل ذلك على ما ذهبنا إليه من وجهين:
أحدهما ـ أن التصرف في البيع والشراء ليعرف فيه حاله من االإبتلاء فوجب أن يكون جائز بظاهر قوله: {وابْتَلُوا الْيَتَامَى}.
والوجه الثاني ـ أن الإبتلاء لا يتم إلا به فصار ذلك كالمنصوص عليه.
ويدل على ذلك أنه مميز محجور عليه فوجب أن يصح بيعه إذا أذن له فيه من يتولى أمره.
دليله العبد إذا أذن له مولاه في البيع، على أنه إذا ثبت جواز البيع الموقوف بما قد بيناه وجب أن يجوز ما ذهبنا إليه، إذ لم يفرق أحد بينهما، ولأنه تصرف من مميز صح أن تلحقه الإجازة فأشبه البيع الموقوف.
بيع الرطب والبقول
مسألة:
ولا يجوز من بيع الرطب والبقول إلا ما ظهر منها وعرف، وهذا منصوص عليه في الأحكام والمنتخب، وروي نحوه عن القاسم في الأحام وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك أنه يجوز بيع مالم يظهر تابعاً لما ظهر.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر، وهذا بيع الغرر، لأنه يجوز أن يختلف حال ما يظهر اختلافاً زيداً على ما ظهر.
ويدل على ذلك أيضاً نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع ماليس عند الإنسان، وهذا مما لا يصح أن يقال: إنه عند الإنسان، وإيضاً روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع الضامين، وهو بيع ما يتضمنه الشيء خلفه.
والعلة أنه بيع عين لم توجد، ولا خلاف أيضاً أنه إذا لم يظهر منه شيء لم يجز، فكذلك إذا ظهر بعضه لهذه العلة.(66/1)
فإن قاسوا على منافع الأجرة كان تمكينه شاهداً لقياسنا، لآنها ليست أعياناً، وإن تعلقوا بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، كان ذلك مخصوصاً بما قدمناه، وليس لهم أن يقولوا: إن الضرورة تدعوا إلى ذلك إذ لا ضرورة تدعو إليه.
النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، ويؤمن فسادها، ولا يجوز بيع شيء من ذلك سنين، قال: وقال القاسم عليه السلام: وكذلك القول في ورق التوت.
ما ذكرناه أولاً منصوص عليه في النمتخب، وما حكيناه عن القاسم منصوص عليه في مسائل النيروسي.
وري نحو قولنا عن ابن أبي ليلى.
وقال أبو حنيفة: هو جائز، وقال الشافعي: إن اشتراطنا القطع جاز، وإلا لم يجز.
وقال زيد بن علي عليهما السلام: إذا اشترطنا القطع جاز.
والأصل في ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقرين حدثنا الطحاوي، حدثنا علي بن معبد، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا زكريا بن إسحاق، حدثنا عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: (نهى روسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه).
وحدثنا الحسين البروجردي، حدثنا عبدالله بن محمد البغوي، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا عبدالعزيز، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها.
حدثنا أبوبكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا عبدالله بن صالح، قال: أخبرني الليث، قال: حدثني يحي، عن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تبايعوا بالثمار حتى تزهو، قلنا: يا رسول الله فما معنى يزهو؟ قال: أو تصفى أرأيتم إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه).
وروى زيد بن علي، عن أبيه عن جده، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(66/2)