على أن ما ذكرتموه لو اقتضى ما ادعوه لكانت أخبارنا أولى لأنها تختص موضع الخلاف فيجب أن تكون مخصصة ملا اعتمدوه، ولا خلاف أن صاحبه لو كان رضي ببيعه جاز البيع، وكذلك إذا رضي بعد وقوع العقد، والمعنى أنه عقد بيع حصل معه رضي المالك، وأيضاً لا خلاف أن المريض لو باع وحاباً وقف البيع على إجازة الورثة، فكذلك ما اختلفنا فيه، والعلة أنه عقد بيع يتعلق به غير حق المتعاقدين فوجب أن يكون موقوفاً على اجازة من له الحق، ولا خلاف أن قول البائع: بعت بكذا وكذا موقوف على قبول المشتري فوجب أن يفق ما اختلفنا فيه على الإجازة والمعنى أنه معنى لو تقدم على العقد لنفذ فوجب أن يفق عليه إذا لم يكن تقدم ألا ترى أنه لا خلاف أنه لو قال المشتري: قد اشتريت منك كذا بكذا فقال البائع: قد بعت لنفذ، وهذا القياس الثاني يودب أن يقف الشراء على إجازة المشتري والوصية أيضاً تشهد بما ذهبنا إليه، ألا ترى أن من أوصى بجميع ماله وقفت وصيته على إيجازة الورثة لما تعلق بالموصى به حق الورثة، وليس لهم أن يقيسوه على الطير في الهواء والسمك في الماء، لأنهما ليساً ملكين لأحد فيكون بيعهما موقوفاً على إجازته.
فإن عللوا لفساد البيع، قلنا: العلة فيه أنه غير مملوك لأحد من الناس فلذلك فسد بيعه، وهذه العلة معلومة لا يصح أن يقابلها العلة المظنونة، وأما قول من قال: إن البيع يوقف والشراء لا يوقف، لأن الشراء يلزم المشتري فهو عندنا غير صحيح، لأن الذي يصح عندنا هو أن الإنسان إذا اشترى شيئاً لغيره بغير أمره لم يلزمه ووقف على اجازة المشتري له، فإن أجازه جاز، وإن لم يلزمه بعد ذلك.
فإن قيل: فالدليل على أنه يلزمه المشتري أن الوكيل إذا الوكيل إذا خالف الموكل في الشراء لزمه؟
قيل له: لسنا نسلم هذا ونقول فيه ما قلنا أولاً إن الوكيل إذا خالف كان موقوفاً على المشترى له فإن أجازه جاز، وإلا لزم الوكيل، وهل الخلاف إلا هذا فكيف يصح البناء عليه.(64/3)
فإن قيل: فكيف يصح أن يكون لزومه المشتري موقوفاً على امتناع المشترى له من إجازة شرائه؟
قيل له: لا يمتنع ذلك ألا ترى أنهم يقولون في الملتقط إذا تصدق باللقطة ثم جاء صاحبها كان بالخيار بين أن يجيزه ويختار الأجر، وبين أن يضمنه قيمتها فيكون تضمين الملتقط موقوفاً على امتناع صاحب اللقطة من إجازة الصدقة، وتكون الصدقة موقوفة على إجازته، فإن أجازها جازت، وإن لم يجزها ضمن الملتقظ، وكذلك المشترى له إن أجاز جاز، وإن امتنع لزم المشتري الشراء.
بيع الشيء بأكثر من سعر يومه
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً باع من رجل شيئاً بأكثر من سعر يومه يدا بيد جاز، فإن باعه بأكثر من سعر يومه مؤجلاً كان البيع فاسداً، وهو من الربا ولا يجوز ذلك وإن لم يشترط الأجل لفظاً إذا كان مضمرين له ومنطويين عليه.
ما ذكرناه من جواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه يدا بيد قد دل عليه في باب المزارعة، وفي نسخة أخرى في باب المرابحة من كتاب الأحكام.
ودل عليه أيضاً في مواضع من الأحكام ومنتخب.
وما ذكرناه من المنع من بيعه بأكثر من سعر يومه نسأ منصوص علي في كتاب الأحكام والمنتخب.
وما ذكرناه من أنه يجوز ذلك، وإن لم يشترطا الأجل لفظاً إذا كانا مضمرين له فنبه عليه في باب الصرف من الأحكام.
أما ما ذكرناه من كون بيع الشيء باكثر من سعر يومه لا يجوز نسأ فهو قول القاسم، رواه عن عبدالله بن الحسن، عن علي بن الحسين عليهم السلام. وبه قال الناصر، وسائر العلماء على خلافه.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَى}، والربا فهو الزيادة، ومنه قول الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِتُرْبُوا فِيْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يُرْبُوا عِنْدَ اللهِ}، فإذا ثبت ذلك ثبت أن ذلك البيع هو بيع الزيادة، فثبت أن بيع الربا فوجب تحريمه بظاهر التلاوة.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}، فلستم بما تعلقتم به بأولى مننا إذا تعلقنا بما ذكناه؟(64/4)
قيل له: تعلقنا بما تعلقنا به أولى لأنه حاظر، وما تعلقتم به مبيح، والحاظر أولى من المبيح، ألا ترى إلى ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال في الجمع بين الأختين بملك اليمين <أحلتهما آية وحرمتهما آية>، ثم غلب الحظر، ولأن الربا أخص من البيع، لأن البيع يشتمل على ماهو بيع مساواة وربا، وعندنا أن العام يجب أن يبنى على الخاص.
فإن قيل: فلم لا تحملونه على هذا المعنى في بيع الشيء بأكثر من سعر يومه يدابيد؟
قيل له: نخص ذلك بدلالة الإجماع ومن طريق السنة ما روي أن علياً عليه السلام خطب الناس، وقال: سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى: {وَلا تَنْسُوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، ويبايع المضطرون، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع المضطرين، وبيع الغرر، وهذا منبيع الضطر، لأن الشيء لا يشترى بأكثر من سعر يومه مؤجلاً إلا لضرورة، وقد بينا تناوله النهي فيجب فساده.
فإن قيل: فمن يشتري بأكثر من سعر يومه إنما يشتريه لضرب من الضرورة، وأن كان الثمن معجلاً، وقد أجزتموه، وكذلك من يبيع الشيء بأقل من سعر يومه إنما يفعله لضرب من الضرورة، وقد أجزتموه.(64/5)
قيل له: إنما تعلقنا بالعموم، وكل ما سألتم عنه مخصوص بالإجماع، وأيضاً روي أن امرأة قالت لعائشة: إني بعت من زيد بن أرقم خادماً بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته بستمائة درهم فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى قد أبطل جهاده معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يتب، فقالت: ارايت إن لم آخذ إلا راس مالي فقالت عائشة: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله)، وهذا لا يجوز أن تقوله إلا توقيفاً، إذ فيه أبطال الجهاد، وذلك لا يكون للإجتهاد، وفيه مقادير الثواب والعقاب، ولا طريق لها إلا التوقيف، فإذا ثبت ذلك فليس يخلو أبطالها البيع الأول من أن يكون لأنه بيع إلى العطاء، وقد عرف من مذهبهما خلاف ذلكك، أو يكون لأنه بيع باكثر من سعر يومه مؤجلاً فإذا فسد الأول لم يبق إلا الثاني.
فإن قيل: فأجيزوا ذلك لغير المضطرين إذا تبايعا؟
قيل له: قد بينا أن موضوع هذا البيع موضوع الإضطرار فلا معتبر بحال المتبايعين، ألا ترى أنه لا خلاف في المضطرين إذا تبايعا الشي بمثل سعر يومه أنه غير مراد بالخبر، فإذا المراد أن يكون البيع موضوعه موضوع الإضطرار.
ويمكن أن يقال لأبي حنيفة والشافعي لا نختلف في أن من باع شيئاً بأكثر من سعر يومه مؤجلاً واشترط خيار بائعه أن البيع فاسد، فكذلك إذا لم يشترط الخيار والعلة أنه بيع بزيادة الثمن مؤجلاً، ويدل عليه أن من عليه الحق لو قال لصاحبه: أخرني بحقط وأزيدك لم يجز ذلك لأنه زيادة ليس في مقابلها إلا الإمام وكذلك بيع الشيء بأكثر من سعر يومه للزيادة، ألا ترى أن الزيادة لم تحصل إلا على الأيام فقط فليس يلزم عليه السلم، لأن من يسلم في أكثر مما يتبايع به لا يقال: إنه بيع بزيادة، وإنما يقال في مثله بيع بوكس، وإن كان فيه زيادة من وجه.(64/6)
على أنه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن من باع شيئاً لم يجز له أن يشتريه بأقل مما باعه به من قبل أن يستوفي الثمن الأول فكذلك ما ذهبنا إليه لأنه لا يحل في أن يحصل في الثمن زيادة لا يقابلها إلا مرور الزمان.
وقلنا: إن ذلك لا يجوز وإن لم يشترطا الأجل لفظاً إذا كانا مضمرين له لقول الله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيْرُونَهَا بَيْنَكُمْ}، وقد ثبت أنهما لم يتراضيا بما جرى بينهما من العقد الظاهر لانطوائهما على خلاف ذلك ألا ترى أن المشتري لو علم أنه يطلب بالثمن معجلاً لم يكن يشتريه بذلك الثمن ولا معتبر بظاهر ما يقع منهما ألا ترى أن المكره إذا باع لم يجز بيعه، وإن ظهر منه ظاهر الإيقاع لما قارن ما يدل على أنه غير راض به، فكذلك ما ذكرناه، ولذلك أبطلنا طلاق المكره وعتاقه.
(ذكر بيع الجزاف)
مسألة:
قال: ولا بأس ببيع الجزاف إذا لم يعرف المتبايعان قدره، فإن كان إحدهما عالماً بمقداره فسده البيع.
وهذا منصوص عليه في الأحكام.
ووجه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن بيع الغرر، وهذا من التغرير لأنهما إذا باعا جزافاً وأحدهما عالم بمقداره والآخرة غير عالم أنه يكون العالم غاراً له، وأيضاً ما روي أبو داود بإسناده عن ابن عمر أن رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يخدع في البيع فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا بايعت فقل: لا خلابة.
دليل على أن البيع الذي يككون مع الخلابة لا يجوز، وذلك هو بيع الخلابة إذ لا يجوز أن يحمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا على التعريف الذي قلنا، إذ ليس بعد ذلك إلا اشتراط إن لا خلابة، ولا خلاف أن اشترااط ذلك لا يؤثره.
فإن قيل: لو بطل هذا البيع لم يبطل إلا لجهل أحدهما وعلم صاحبه، وقد علمنا أن واحداً منهما لا يبطل البيع إذ لو جمعهما العلم والجهل ككان البيع صحيحاً بالإجماع، وإذا ثبت ذلك لم يجب أن يبطل.(64/7)