قيل له: ظاهر الخبر يقتضي خلاف ذلك لأن فيه أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر، وذكر الحاجة فأمر ببيعه فذكر الإعتاق عن دبر ولم يذكر شرطاً سواه فيه ولا يمكن إثبات شرط لا يقتضيه الخبر ولم يدل الدليل عليه، فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدبر لا يباع ولا يشترى، ثم روي أنه باع مدبراً فاستعملنا الخبرين بأن حملنا بيعه المدبر على مدبر، دون مدبر وأنتم استعملتموه بأن حملتموه على اختلاف أحوال المدبر في نفسه فتساوينا فيه، وبقي لنا قوله: (المدبر لا يباع ولا يشترى)؟
قيل له: استعمالنا أولى من استعمالكم وذلك أن ما راعيناه من المدبر تضمنته الأخبار الواردة في هذا الباب، ألا ترى أن في بعض الأخبار أنه باع مدبراً في الدين، وفي بعضها ـ أن رجلاً أعتق عبده عن دبر لا مال له غيره، وفي بعضها فذكر الحاجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيما رواه أبو داود في السنن بإسناده عن أبي الزبير عن جابر أن رجلاً من الأنصار يقال له: أبو مذكور أعتق غلاماً له يقال له: يعقوب عن دبر، ولم يكن له مال غيره فدعا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من يشتريه فاشتراه نعيم بن عبدالله بثمانمائة درهم فدفعها إليه، وقال: إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه.
وفي بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وآله وسلم باعه وقال: (الله عنه غني وأنت إلى ثمنه أحوج)، فكل ذلك يدل على أن السبب الذي بيع أجله ما ذهبنا إليه فكان استعمالنا أولى من استعمال من حمله على مالم ينطق به شيء من الأخبار.(63/15)


ومما يدل على ذلك أنه أمر مستقر يراعى لتقييده الثلث فوجب أن لا يجوز الإعتراض علهي إلا لعذر دليله الوصية بعد الموت، وليس يلزم عليه الوصية قبل الموت لأن الوصية لا تستقر قبل الموت وإنما استقرارها بعد الموت وليس كذلك التدبير لأنه يستقر قبل الموت، ألا ترى أنه لا خلاف أن العبد يكون مدبراً في حال حياة مولاه وأيضاً وجدناه التدبير عتقاً من جهة القول معلقاً على شرط منتظر فوجب أن يكون لمالكه فسخه على حال دون حال، دليله الكتابة ألا ترى أن له أن يفسخ الكتابة إذا عجز العبد أو استقال، ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن من قال لعبده: أنت حر إن مت من مرضي هذا أن له أن يبيعه إذا إطر إلى بيعه فكذلك إن قال: أنت حر إن مت من مرضي هذا أن له أن يبيعه إذا إضطر إلى بيعه فكذلك إن قال له: أنت حر إن مت فقط والعلة أنه مدبر مضطر إلى بيعه مدبرن، وهذه العلة لها تأثير عندنا، لأنه لو لم يكن مضطراً لم يجز بيعه عندنا.
يؤكد ذلك أنا وجدنا المدبر حال المدبر أقوى في باب من حال من أوصى بعتقه، لأنه يفتقر إلى اعتاق الوصي بعد الموت، وليس يعتقر المدبر إلى ذلك، ووجدنا حاله أضعف من حال أم الولد، لأن أم الولد تعتق من جملة المال والمدبر يعتق من الثلث إلا ترى أن الوصية لما كانت أضعف حالاً من الدين نفذت من الثلث، ونفذ الدين من جميع المال، فلما ثبت ذلك وجب أن يكون حاله فاصلة بين حال الموصى بعتقه وحال أن الولد، فككانت أم الولد مما لا يجوز بيعها على وجه من الوجوه، والموصي بعتقه يجوز بيعه بكل حال، فوجب أن يكون المدبر يجوز بيعه على حال دون حال، وكان أولى الأحوال بالفصل في ذلك مادلت الآثار عليه.
وأيضاً وجدنا المدبر بعد موت صاحبه حاله متوسطه بحال أم الولد والموصى بعتقه، لأن أم الولد تعتق بكل حال عتقاً مطلقاً، والموصى بعتقه يمنع الدين من تنفيذ عتقه، والمدبر يعتق مع السعي فوجب أن يكون حال متوسططة في حال حياته بينهما على ما ذهبنا إليه.(63/16)


فأما مالك فإنه يجيز بيعه في الدين فيجب أن يجوز بيعه في سائر الضرورات لأن الأخبار قد نبهت عليه، لأن في بعض الأخبار أنه عليه السلام باعه في الدين وفي بعضها أن الرجل ذكر الحاجة فأمر ببيعه، وفي بعض الأخبار أنه عليه السلام باعه في الدين وفي بعضها أن الرجل ذكر الحاجة فأمر ببيعه، وفي بعضها أنه قال: إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، وفي بعضها: (الله عنه أغنى وأنت إلى ثمنه أحوج)، فنبه ذلك على أن الحاجة مراعاة فيه كالدين، وأيضاً وجب أن تقاس سائر الضرورات على الدين بمعنى أنه ضرورة، على أنا وجدنا سائر الضروريات في الأصول كالدين أو أقوى من الدين، ولم نجدها أضعف من الدين، ألا ترى أنهما يستويان في باب أخذ الزكاة، وعندنا الدين أضعف في باب أداء الزكاة، لأن من عليه الدين قد يلزمه نفقة الرحم، وإن كان الفقير لا يلزمه، فإذا جاز أن يباع المدبر في الدين جاز أن يباع في سائر الضرورات إذ ليست حالها أضعف من حال الدين.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الضالة، ولا بيع العبد الآبق في حال أباقه، وبيعها غرر.
وهذا منصوص عليه في الأحكام، ونص في المنتخب على أن بيع الآبق لا يجوز.
والأصل في ذلك ما أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن يحي بن عتيق، عن محمد بن سيرين، عن أيوب السختياني، عن يوسف بن ماهك المكي، عن حكيم بن حزام قال: (نهاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أبيع ماليس عندي)، والآبق والضالة ليساً عند البائع فوجب أن لا يجوز بيعهما لعموم النهي عن ذلك.
وروي زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام: (أنه نهى عن بيع ماليس عندك والنهي عن بيع االغرر يقتضي النهي عن بيع الآبق والضالة، لأنه غرر لا يدري أيظفر به أم لا فيجري مجرى بيع الطير في الهواء والسمك في الماء.(63/17)


شراء الموقوف
مسألة:
قال: ولا بأس بالشراء الموقوف على إذن المشتري له، وكذلك والقول في البيع الموقوف على اذن صاحب المبيح تخريجاً، نص في الأحكام في مسألة من خالف أمر الآمر على إجازة الشراء الموقوف ودل كلامه فيه وفي النكاح الموقوف على اجازته البيع الموقوف والشافعي يأباهما، وأجاز أبو حنيفة البيع الموقوف دون الشراء الموقوف وأجاز الوقف في الشراء دون البيع مالك.
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَى}، والبيع اسم للإيجاب والقبول وليس لأحد أن يقول: الإيجاب يجب أن يكون من المالك لأنه لاخلاف أن اسم البيع ينطق عليه، لأنه لا يمنع أحد من أن يقول باع فلان مال غيره.
فإن قيل: البيع هو إيجاب الملك للغير والموقوف لا يكون ملكاً فلا يجب أن يكون بيعاً فثبت أن الإسم لا يتناوله؟
قيل له: البيع هو اسم الإيجاب والقبول فقط يكشف ذلك أن المتعاقدين لو تعاقدا على خيار معلوم كان ذلك كان ذلك بيعاً، وإن لم يجب الملك.
ومما يدل على ذلك حديث عروة البارقي قال: أعطاني رسول الله ديناراً لاشتري به شاة، فاشتريت به شاتين فبعت أحدهما بدينار وجئت بالأخرى فقال: أحسنت، وروي أنه قال: أعطاني ديناراً أشتري به أضحية فاشتريت به شاتين فبعت أحدهما بدينار وجازه بدينار وشاة فدعى له صلى الله عليه وآله وسلم بالبركة ف بيعه فكان لو اشترى التراب ربح، وفي بعض الأخبار قلت: هذا ديناركم، وهذه شاتكم فقال: كيف صنعت فحدثته بالحديث، فقال: اللهم بارك في صفقة يمينه فدلت هذه الأخبار على ما ذهبنا إليه من جواز البيع والشراء الموقوفين لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يشتري شاة فاشترى شاتين بغير أمره ثم باع أحدهما بغير أمره ثم باع أحداهما بغير أمره فأجازه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدل ما ذهبنا إليه من أن الإجازة تلحق البيع والشراء جميعاً.(64/1)


ومما يدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أعطى حكيم بن حزام دينار وأمره أن يشتري به أضحية فاشترى وباع ثم اشترى، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدينار وشاة، فقال: ما هذا؟ قال: بعت واشتريت وربحت، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بارك الله لك في تجارتك)، فدل ذلك على ما ذهبنا إليه لآن حكيماً باع مالم يؤمر ببيعه، ثم شرى مالم يؤمر بشرائه ثانياً وأجازهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع مالم يملك، وأنه قال: لا تبع ماليس عندك، وهذا نقيض مذهبكم.
قيل له: أما عن بيع مالم يملك فلا يتناول موضع الخلاف، لأن الخلاف إنما هو في بيع مالم يملك إذا باعه غير مالكه، وأما مالا يكون ملكاً لأحد فلا خلاف أن بيعه لا يجوز، وهو الذي ورد النهي عن بيعه، وقوله: (لا تبع ماليس عندك)، أيضاً لا يدل على موضع الخلاف لأن الإنسان قد يكون عنده ملك غيره، والخلاف في بيعه قائم.(64/2)

24 / 149
ع
En
A+
A-