والثاني ـ أنه يجوز أن يكون ذكر ما عرض له من الرأي، ولم يقل: إنه أخذ به، ومن الجائز أن يكون الرأي يعترض له ثم يمنعه عن الأخذ به ما سلف من الإجماع، وهذا نحو ما روي عن علي عليه السلام أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره)، فبان أن الرأي يقتضي وإن كان هناك ما يمنع منه.
فإن قيل: [ما] روي عن عبيدة السلماني من قوله: فقلت له يعني علياً عليه السلام: رأيت في الجماعة أحب إليَّ من رأيك في الفرقة يقترض هذا التأويل؟
قيل له: قد ذكر جماعة من العلماء أن هذا اللفظ مما لا يصح، وإن عبيدة لم يكن له من الوزن ما يجيزه على أن شافه أمير المؤمنين عليه السلام بذلك وينسبه إلى خرق الإجماع منه، وأنه يجوز أن يكون قال ذلك في نفسه حين خفي عليه معنى قول أمير المؤمنين.
على أنه إن ثبت فلا معترض به على الوجه الثاني من التأويل، وذلك أن معنى قوله موافق لتأويلنا، لأنهما جميعاً يفيدان أن هذا الرأي لا يجوز الأخذ به لمنع الإجماع من، وقد بينا أن علياً عليه السلام لم يقل: إني أخذت بهذا الرأي وعملت به.
فإن قيل: فإن زيد بن علي روى عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام مالا يحتمل هذا التأويل، وهو قوله: وكان يقول إذا مات سيدها وله منها ولد فهي حرة من نصيبه، لأن الولد قد ملك منها شقصاً وإن كانت لا ولد لها بيعت؟
قيل له: هذا رواه أبو خالد، عن زيد بن علي عليهما السلام يرفعه إلى علي صلوات الله عليه أنه كان يجيز بيع أمهات الأولاد، ولا يمتنع أن يكون قول زيد بن علي عليه السلام أدرجه في الخبر، وإن يكون أبو خالد هو القائل، وكان يقول: كذا والمراد به زيد دون أمير المؤمنين عليهما السلام.(63/10)


ويحتمل أيضاً أن يكون المراد به إذا كان الإستيلاد وقع في غير الملك ويكون الملك تجدد بعد الولادة، وهذه لا تكون أم ولد حكماً وإن كان جاز أن تسمى من طريق أم ولد، وحكمها عندنا هو ما تضمنه ظاهر هذا الحديث، فلا يكون قادحاً في مذهبنا.
فإن قيل: فقد روى زيد بن علي عنه عليه السلام ماهو أوضح من هذا وهو أن رجلاً أتاه فقال: يا أمير المؤمنين إن لي أمة ولدت مني أفأهبها لأخي قال: نعم فوهبها لأخيه فوطئها فأولدها فأتاه الآخر فقال: أهبها لأخ لي آخر قال: نعم فوطئوها جميعاً؟
قيل له: أما الأخ الأول فيجوز أن يكون استيلاده لها كان قبل الملك فوطئها ثم ملككها قبل الولادة، وهذه عندنا يجوز بيعها وهبتها فأجاز علي عليه السلام أن يهبها لأخيه، وأما الأخ الثاني فيجوز أن يكون ألااد بالهبة النكاح، فإن النكاح يجوز أن يعبر عنه بالهبة ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيْ}، والمراد به النكاح، وكذلك قلنا: إن النكاح ينعقد بلفظ الهبة فيكون وطء الثالث لها بالنكاح دون الملك.
فإن قيل: ما الفصل بينكم وبين من تأول ما روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول: (لا تباع أم الولد) على أم الولد التي مات عنها سيدها وله منها ولد باق؟
قيل له: تأويلنا أولى لموافقة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولما ذكر من حصول الإجماع فكنا ب أسعد.
فإن قيل: فكيف تدعون الإجماع فيه، وقد روي عن عمر أنه قال: <أم الولد إذا أسلمت وأحصنت عتقت وإن كفرت وفجرت وغدرت رقت>؟
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به إرتدت ولحقت بدار الحرب.
فإن قيل: روي عن ابن الزبير جواز بيعهن؟
قيل له: يحتمل أن يكون من ملك بعد الولادة.
فإن قيل: روي عن ابن مسعود أنه قال: تعتق من نصيب ولدها؟
قيل له: هذا لا يمنع من القول بإعتاقها، وإنما الخلاف في جهة العتق وليس فيه دلالة على جواز البيع. على أنه قد روي عن ابن مسعود مادل على خلاف ذلك.(63/11)


أخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله قال: أخبرنا الحسين بن أبي الربيع، قال: حدثنا الحسين بن علي بن الربيع، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن زيد بن هب، قال: مات رجل من الحي وترك أم ولد فأمر الوليد بن عقيبة ببيعها فأتينا ابن مسعود فسالناه فقال: إن كنتم لا بد فاعلين فاجعلوها في نصيب ولدها، فدل ذلك أنه لم يقل ذلك عن رضى ببيعها.
فإن قيل: قد روي عن جابر أنه قال: كنا نبيع امهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهد أبي بكر إلى أن نهى عنه عمر.
قيل له: هذا مما لا حجة فيه للمخالف، لأنه لم يذكر أنه فعل ذلك بإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا ترى إلى ما روى أبي بن كعب لما قال لعمر: قد كنا نجامع على عهد رسول الله فلا نغتسل حتى نزل، فقال له عمر: فأخبرتم بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرضيه قال: لا فلم يأخذ به.
على أن ذلك يحتمل أن يكون في أمهات أولاد ولدن قبل الملك وهذا ممالا نأبا.
ومما يدل على ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا ابن اليمان قال: أخبرنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، قال: حدثني عبدالله بن محيريز الجمحي أن أبا سعيد الخدري أخبره أنه بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل من الأنصار فقال يا رسول الله إنا نصيب سبياً ونحب الأثمان فكيف ترى في العزل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا عليكم ألا تفعلوا ذلك فإنها ليس بنسمة كتب الله عز وجل أن تخرج إلا وهي خارجة)، فلولا أن بيعها بعد الإستيلاد غير جائز لقال صلى الله عليه وآله وسلم ليس الإستيلاد بمانع من الثمن فدل ذلك على حظر بيعهن.(63/12)


فأما ما يذكره المخالف في هذا الباب مما يجري مجرى النظر فلا معنى له لأنه يؤدي إلى خلاف النصوص التي ذكرناها، وإلى خلاف ما أجمع عليه، وما يجري هذا المجرى من النظر فهو فاسد على أنهم لا يخالفون في أن اطلاق بيعها في حال الحمل غير جائز لأنهم فرقتان فرقة يذهبون إلى أن بيعها في حال الحمل غير جائز على وجه من الوجوه، وفرقة يذهبون إلى أن بيعها لا يجوز إلا أن يستثني مافي بطنها فحصل الوفاق في أن بيعها على الإطلاق غير جائز فوجب أن لا يجوز بيعها بعد الولادة على الإطلاق. والعلة أن مالكها أحبلها في الإسلام فكل مملوكة حبلت من مالكها في الإسلام لم يجز اطلاق بيعها، وإذا ثبت أن اطلاق بيعها غير جائز ثبت أنه لا يجوز بيعها على وجه من الوجوه إذ لم يفصل أحد بين ذلك ويؤكد ذلك بالحظر والإحتياط.
وقلنا: إنها تصير أم ولد سواء وضعت للتمام أو لغير التمام لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعتقها ولدها ولو كان سقطاً)، واشترطنا أن تكون مضغة أو نحوها ليعلم أنه ولد وينفصل حال بين أن يكون ولداً، وبين أن يكون دماً أو غيره مما يجمعه أبداً.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع المدبر إلا من ضرورة وهذا منصوص عليه في الأحكام والمنتخب، وبه قال القاسم، قال الناصر: يجوز بيعه على كل حال وبه قال الشافعي قال أبو حنيفة: لا يجوز بيعه بحال، وقال مالك: إنه لا يباع إلا في الدين.
والأصل في ذلك ما أخبرنا به علي بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن اليمان قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق عن عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن جابر قال: كان في المدينة رجل أعتق غلاماً قبطياً، عن دبر منه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له الحاجة فأمره أن يبيعه فباعه بثمنمائة درهم من نعيم بن النحام.(63/13)


وروى أبو داود بإسناده عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر منه، ولم يكن له مال غيره فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبيع.
فدل ذلك على أن بيعه كان للحجة ألا ترى إلى ما روي أن رسول الله سها فسجد دل على أن السجود كان للسهو، وكذلك ما روي أن ما عزاً زنا فرجم دل على أن الرجم ككان للزنا فكذلك قول جابر: أعتق غلاماً له عن دبر فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له الحاجة فأمره أن يبيعه فيه دليل على أن بيعه كان من اجل الحاجة ومقصوراً عليها، وهذا نص فيما ذهبنا إليه.
فإن قيل: فقد روى الجصاص بإسناده عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( المدبر لا يباع ولا يشترى وهو من الثلث، وهذا عام في جميع الأحوال).؟
قيل له: لا ننكر ما ذكت وبه نحتج على الشافعي ومن قال: مثل قوله إذ أجاز بيعه إلا أنا نخصص منه مدبر المضطر بالدليل الذي قدمناه.
فإن قيل: روي عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: إنما باع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خجمة المدبر؟
قيل له: هذا لا يمنع ما اعتمدناه من الأخبار لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم باع خدمة المدبر مرة والمدبر نفسه مرة أخرى فليس بينهما تناف، وأكثر ما في هذا أن يكون أبو جعفر عليه السلام لم يعرف أحد البيعين وعرف الآخر.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إنا نجوز بيع بعض المدبر، وهو أن لا يكون عتقه علق بمجرد موت مالكه فيحمل الخبر عليه.(63/14)

23 / 149
ع
En
A+
A-