وليس لهم أن يقولوا: إن لا تأثير للتسليط في البيع الصحيح، لأن البائع يملك الثمن قبله، لأن ذلك لا يستقر إلا بعد التسلط فصح تأثيره، وليس لهم أن يمنعوا من وجود الوصف في الفرع، لأنه لا خلاف أن من اشترى شراء فاسداً، وقبض المشتري فتلف في يد أن بائعه يستحق عليه البدل الذي هو القيمة.
يوضح ذلك أن النكاح الفاسد لا حكم له في الإنفراد، ثم إذا اتصل به الوطء صار في حكم الصحيح، وصار الواطيء في حكم المالك للبضع، ألا ترى أنه لو وطئها مراراً لم تستحق إلا مهراً واحداً، وصار الوطء الثاني وما بعده في حكم الوطء الواقع في ملكه فكذلك الوطء في البيع الفاسد.
فإن قيل: فقد ثبت أن القبض المنفرد عن العقد لا يوجب التمليك فكذلك العقد المنفرد عن القبض قد ثبت أنه لا يوجب التمليك فوجب أن لا يوجب ذلك اجتماعهما.
قيل له: لا يمتنع أن يكون الشيئان لا يوجب كل واحد منهما أمراً على الإنفراد، وإن أوجباه إذا اجتمعا، ألا ترى أن النكاح الفاسد لا يوجب مهراً إذا انفرد عن الوطء، وكذلك الوطء إذا تجرد، وإن اجتمعا أوجبا المهر فكذلك الإيجاب في البيع لا يوجب الملك إذا انفرد، والقبول أيضاً إذا انفرد عن الإيجاب لم يوجب المملك، وإذا اجتمعا أوجبا فبان سقوط اعبراضهم بهذا.
فإن قيل: فلو باعه بما لا يصح بملكه على وجه من الوجوه ثم قبضه لم يملك، وهذا ينقض ما اعتمدتموه؟
قيل له: هذا ساقط من وجهين:
أحدهما ـ أنا لا نسلم أن ذلك عقد بيع، لأن البيع بما لا يصح تملكه على وجه من الوجوه غير معقول فاسم عقد البيع لا يتناوله.
والثاني ـ أنه لا يجب أن يكون ما يقبضه على ذلك مضموناً عليه عندنا، وقد ذكر أبو بكر الجصاص في شرح المختصر أن ذلك غير محفوظ عن أصحابهم،، وأنه لا يمتنع أن يقال: إنه غير مضمون عند أصحابهم، فأما على قولنا فهو الأظهر، لأن أصحابنا لا يضمنون من قبض الشيء للسوم إذا لم يجر فيه عقد على وجه من الوجوه.(63/5)


ويشهد لما ذكرناه الهبة على عوض فاسد والإجارة الفاسدة على العمل، ألا ترى أنه يستحق ب الأجرة على العمل كما يستحق بالإجارة الصحيحة على العمل، ويشهد له أيضاً وقوع العتق بالكتابة الفاسدة.
مسألة:
قال: فإن قبضه ثم تركه عند بائعه رهناً أو وديعة، ثم باعه كان البيع جائزاً، وكذلك لا يجوز بيع الصدقة ولا الخمس قبل القبض.
وجميعه منصوص عليه في الأحكام.
ووجه قولنا: إنه إن كان قبضه ثم تركه عند بائعه رهناً أو وديعة جاز فيه البيع أنه قد حصل مقبوضاً، وصار مضموناً له، فسبيله بيل ما يودع أو يرهن عند غير بائعه في جواز البيع، لأنه لا فرق بين البائع وبين من سواه في هذا الباب، على أنه مما لا أحفظ فيه خلافاً.
وقلنا: إن بيع الصدقة والخمص لا يجوز قبل القبض لعموم ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع مالم يقبض وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الصدقة حتى تقبض وعن بيع الخمس حتى يحاز)، ولأنه لا يملكه إلا بالقبض فأشبه بيع الحيتان في النهر في أنه لا يجوز بيعها.
فإن قيل: فإذا كنتم تجوزون بيع مالا يملكه الإنسان وتوقفون على إجازة رب المال فهلا قلتم ذلك في بيع الخمس والصدقة؟
قيل له: أما الخمس فليس له مالك معين فيكون بيع من يبيعه موقوفاً على إجازته، لأن ملكه يستقر لمعين بالقبض، والصجقة لا تكون ملكاً لمالكها حتى يقبضها المتصدق عليه، وإنما سمي صدقة على سبيل التوسع فلو باعه بائع فأجازه مالكه خرج عن حكم الصدقة وصار بمنزلة سائر ما يوقف على إجازة مالكه فلم يجب أن يكون ما سألوا عنه لازماً على مابيناه فسقط التعلق به.
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع إمهات الأولاد على وجه من الوجوه سواء وضعت للتمام أو لغير تمام بعد أن وضعت مضغة أو نحوها.(63/6)


ماذكرناه من أن بيعهن لا يجوز منصوص عليه في الأحكام والمنتخب، وهو قول القاسم عليه السلام وما ذكرناه من أنها لو وضعت لغير تمام بعد أن يكون مضغه أو نحوها منصوص عليه في المنتخب. وما ذهبنا إليه من منع بيعهن هو قول عامة الفقهاء، وهو ما أجمع عليه في الصدر الأول.
وذهبت الإمامية إلى أن بيعهن جائز، وبه قال الناصر عليه السلام، وروي القولان جميعاً عن أمير المؤمنين عليه السلام رواه عنه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام مثل قول الإماية.
وروى لنا أبو العباس الحسني مثل قولنا عنه عليه السلام، قال أبو العباس الحسني: أخبرنا محمد بن الحسين بن علي العلوي المصري، قال: حدثنا أبي الحيسن ـ يعني أخا الناصر ـ قال: حدثنا زيد بن الحسن بن زيد بن عيسى بن زيد بن علي، عن أبي بكر عبدالله بن أبي أويس، عن حسين بن عبدالله بن ضميرة، عن أبي، عن جده، عن علي عليه السلام أنه كان يقول: لا تباع أم الولد.
والأصل في ذلك ما اخبرنا به أبو العباس الحسني قال: أخبرنا أحمد بن سعيد بن عثمان الثقفي، قال: أخبرنا أحمد بن سعيد الدارمي، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن عكرمه، عن ابن عباس، قال: ذكرت مارية أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (اعتقها ولدها وإن كان سقطاً). فدل ذلك على أنها تصير حرة بنفس الولادة، وهذا صريح مذهبنا.
فإن قيل: فأنتم لا تثبتون عتقها في حال الولادة؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون الموجب للعتق هو الولادة، وإن وجب أن يراعى لتمامه شرط آخر، ألا ترى أن المكاتب يعتق بالكتابة، وإن كان أداء المال شرطاً في تمام العتق.
فإن قيل: فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أعتقها لدها)، وقد علمنا أن الولد لم يكن منه الإعتاق فلم يكن للخبر ظاهر؟(63/7)


قيل له: لا وجه للخبر غير اعتاقها بالولادة، ألا ترى إلى قوله: (وإن كان سقطاً)، والسقط لا يكون منه القعل فبان أن الغرض فيه ليس أن فعل إعتاقها، وأن المراد أنها تعتق بولادتها له.
فإن قيل: فإذا تأولتم الخبر على وجه لا يقتضي الظاهر فلنا أن نتأوله على وجه آخر، وهو أن نقول: إنها تعتق بعتق الولد إذا مات الوالد وبقي الولد؟
قيل له: هذا التأويل ساقط من وجهين:
أحدهما ـ أن إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يجب على هذا خصول عتقها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أعتقها ولدها).
والوجه الثاني ـ أن قوله: (ولو كان سقطاً)، يدل على أن المراد به غير ما تأولتموه.
وأخبرنا أيضاً أبو العباس الحسني رضي الله عنه قال: أخبرنا عبدالرحمن بن الحسين الأسدي قاضي همدان، قال: أخبرنا إبراهيم بن الحسين المعروق بابن ديزيل قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الجعفري من ولد الطيار صلوات الله عليه قال: حدثني عبدالله بن سلمة بن أسلم، عن الحسين بن عبدالله بن عبيدالله الهاشمي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأم إبراهيم: (أعتقها ولدها).
ويدل على ذلك ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا الحسين بن عبدالله بن عبدالحميد البجلي الهمداني، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن زيد الواسطي، قال: حدثنا أبي وعمي علي بن أحمد، قالا: حدثنا محمد بن صبيح، قال: حدثنا عبدالله بن خراش، عن العوام بن حوشب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ولدت جارية الرجل منه فهي له متعة حياته وإذا مات فهي حرة)، وهذا صريح مذهبنا.
وروي عن الثوري عن الإفريقي، عن مسلم بن سنان، عن ابن المسيب قال: أهات الأولاد لا يبعن، ولا يجعلن من الثلث، قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكره الجصاص في كتابه.(63/8)


وروي أيضاً بإسناده عن خوات بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنع عن بيعهن.
ويدل على ذلك ما روي عن عبيد السلماني، عن علي عليه السلام قال: إجتمع رأيي ورأي عمر في جماعة المسلمين على عتق أمهات الأولاد، ثم رأيت أن أرقهن فأخبر أن الإجماع حصل على ذلك.
وروى أبو العباس الحسني رضي الله عنه في كتاب الإبانة بإسناده عن الشعبي، عن علي عليه السلام قال: استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد فرأيت أنا وهو إذا ولدت عتقت، وقضى به عمر حياته وعثمان بعده فلما وليت الأمر من بعدهما رأيت أن أرقهن.
فإن قيل: هذا عليكم من وجهين:
أحدهما ـ أن فيه ما يدل على أنهما لم يحفظا فيه النص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والثاني ـ أن علياً عليه السلام ذكر رجوعه عنه، وعندكم أنه لا يجوز أن يخالف.
قيل له: أما الأول ـ فلا معترض به لأنه لا يجب في كل حال أن يكون قد عرف جميع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحوز أن يكونا قد عرفا النص فاشتبه عليهما المراد فأجمع الرأي منهما ومن المسلمين على مراده صلى الله عليه وآله وسلم بالخبر فانتهوا إليه.
وأما الثاني ـ فلا معنى له لأن علياً عليه السلام لا يجوز أن يخالف إجماع المسلمين فيجوز أن يكون لكلامه عليه السلام تأويل، وهو أحد الوجهين إما أن يكون مراده إني رأيت أن أبين بقاء رقهن لئلا يظن الناس أن المراد بقوله: إنهن عتقن العتق البتات فيكون كلامه عليه السلام كالتفسير لما أجمعوا عليه من قبل.
فإن قيل: فقد روي في بعض الأخبار <ثم رأيت أن أبيعهن>.
قيل له: يجوز أن يكون هذا لفظ الراوي الذي سمع قوله أرقهن فتأول فيه حقيقة الإسترقاق فعبر عنه بحكمه، وهو جواز البيع لأن أكثر من روى هذا الحديث روى بلفظ الإرقاق دون لفظ البيع.(63/9)

22 / 149
ع
En
A+
A-