تم الجزء الثالث من شرح التجريد والحمد لله المبديء المعيد وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، وكان إكمال هذا بقلم المفتقر إلى عفو الله أحمد بن عبدالرحمن الغالبي.
وذلك لأن الأصل المصور عليه لم يكن كاملاً فأتم نسخه القاضي العلامة أحمد بن عبد الرحمن الغالبي.(62/16)


كتاب البيوع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحل البيع والشراء، وأرفق بهما جميع الورى، وحرم الغصب والرباء، وصلى الله على النبي المصطفى محمد وآله أئمة الهدى، وسلم تسليماً.
كتاب البيوع
باب القول فيما يصح أو يفسد من البيوع
من اشترى شيئاً ثم باعه قبل القبض كان البيع فاسداً، ولو كان المبيع عبداً فأعتق كان العتق مردوداً.
وهذا منصوص عليه في الأحكام، وبه قال أبو يوسف، ومحمد والشافعي أعني فساد مالم يقبض في جميع مايملك بالبيع.
وقال أبو حنيفة بذلك إلا في العقارات والأرضين، قال أبو الحسن الكرخي: قول أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة.
وحكي عن مالك أجازه ذلك إلا في الطعام.
والأصل فيما ذهبنا إليه ما أخبرنا به أبو بكر المقري قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن ميمون، قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير، قال: حدثني يعلي بن حكيم بن حزام أن أباه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إني أشتري بيوعاً فما يحل لي منها؟ قال: (إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه).
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربح مالم يضمن، وعن بيع مالم يقبض)، فكان ذلك عاماً في جميع ما يباع طعاماً كان أو غيره تأتى فيه النقل أو لم يتأت.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَى}، فهو عام في جميع البيوع إلا ما قام دليله؟
قيل له: نخص الآية بالخبر ونبينها عليه لأنه أخص ولآنه يتناول موضع الخلاف على التفيين فهو أولى.
فإن قيل: خبركم يتناول ما يصح فيه القبض الحقيقي، والدور والعقار لا يصح فيها القبض الحقيقي، لأن القبض الحقيقي لا يكون إلا بالنقل والتحويل، وذلك لا يتأتى في الدور والعقار؟(63/1)


قيل له: هذا الذي ذكرتموه فاسد، لأن القبض لا يقتضي النقل وتالتحويل، ألا ترى أن من اشترى ثوباً بين يديه فخلى البائع بينه وبينه بحيث يمكنه الإنتفاع به يكون قد قبضه، وإن لم ينقله.
على أنه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن الرهن لا يصح إلا بأن يكون مقبوضاً، ورهن الدور والعقار صحيح فلولا أن القبض يتأتى فيها كان رهنها لا يصح، وكذلك عنده أن الههبة لا تصح إلا بالقبض، وهبة مالا ينقل عنده صحيحة فلولا أن القبض فيه قد حصل لم تكن تصح هبته.
وكذلك من اشترى أرضاً أو داراً فلا خلاف أن المطالبة بتسليمها واجبة مالم يقبضها فكل ذلك يدل على فساد قولهم إن القبض الحقيقي فيه لا يصح.
فإن قيل: أردنا بالقبض ما تقتضي اللغة دون ما أشرتم إليه؟
قيل له: لا معتبر في مثل ذلك بما يقتضيه أصل اللغة لأن العرف الحاصل أقوى منه والأولى أن يحمل عليه خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم دون أصل اللغة كمنا نقول ذلك في الأسماء المنقولة.
على أن القبض الذي هو قبض في أصل اللغة هو أن تحيط الأصابع والراحة بالشيء، وذلك لا يتأتى في اكثر الأشياء فبان بذلك كله صحة ما ذهبنا إليه، وأن الواجب في الخبر أن يحمل على ما يقتضي العرف أنه قبض.
ويدل على ذلك ما أجمعنا عليه من أن بيع الطعام قبل القبض لا يجوز، وكذلك لا خلاف بيننا وبينه في سائر الأشياء التي يصح فيها النقل والتحويل، أن بيعه قبل القبض لا يجوز، فكذلك ما اختلفنا فيه، لأنه سلعة لم يقبضها المشتري فوجب أن لا يجوز بيعها، ولا يعترض ذلك الدنانير التي في الذمة قبل القبض، لأنها ليست من جملة السلع بل هي من الأثمان، وأيضاً ما يصح فيه النقل والتحويل لم يجز بيعه قبل القبض، لأن تمام البيع الأول موقوف على القبض ألا ترى أن حق التسليم بعد باق، وهو من كمال العقد وتمامه فيجب على هذا أن لا يجوز البيع قبل القبض فيما لا يجوز فيه النقل والتحويل لما ذكرناه.(63/2)


وليس يعترض ذلك حق استيفاء الثمن لأنه ليس من تمام العقد، ألا ترى أن الإبراء من يصح من البائع مع ثبوت العقد، وليس كذلك حق التسليم، فعلم أنه من تمام العقد.
ويمكن أن يقال: إن العلة في المنع من بيع مالم يقبض طعاماً كان أو غيره أنه سلعة مضمونة على البائع بعقد البيع فوجب أن لا يجوز بيعه قبل القبض، ولا يلزم عليه ضمان الغصب، ولا ضمان العارية إذا اشترط فيها ذلك، لأن كل ذلك مما لا يصح أن يقال فيه: إنه مضمون على البائع بعقد البيع.
فإن قيل: فأنتم تمنعون جواز بيع الخمص أو الصدقة حتى تقبض، وهما لا يصح أن يقال إنهما مضمونان على البائع بعقد البيع؟
قيل له: هذا وجود الحكم الا علة، ونحن بينا أن ذلك لا يوجب النقص، فما ذكرتموه ليس بنقض.
فإن قيل: إن ما ينقل لا يجوز بيعه قبل القبض لأنه لا يؤمن فيه فساد العقد بتلف المبيع وهذا غير موجود في العقار؟
قيل له: هذه العلة لا تنافي علتنا فلا ضرر علينا منها.
على أنه لا يمتنع أن نقول: إنه يجوز أن ينقض بيع العقار بانهدام البناء القائم، وذكر أبو عبدالله البصري في شرح مختصر الكرخي أنه لا نص فيه عن أبي حنفة فلا نسلم لهم الوصف.
وليس لهم أن يقولوا: إنه يجب أن لا يفسد البيع بانهدام العلو لجواز الإنتفاع بالقرار، ألا ترى أنه لاخلاف في أن الشاة لو ماتت قبل القبض لانتقل البيع فيها، وإن كان الإنتفاع بصوفها جائز عندنا وعندهم، وكان الإنتفاع بجلدها أيضاً جائز عندهم، فيما كان معظم الإنتفاع أو ماهو جار مجرى المعظم قد بطل.
فإن قاسوه على المهر، أو جعل الخلع أو الصلح عن دم العمد بعلة أنه يؤمن فساد عقده بتلف فهو غير مسلم في الفرع على ما بيناه.
على أنا لسنا نحفظ عن أصحابنا إجازة بيع المهر أو جعل الخلع أو الصلح عن دم العمد قبل القبض.
والأقرب على أصولهم أنه لا يجوز فصار الحكم في الأصل غير مسلم فلا يصح اعتمادهم عليه.(63/3)


فأما ما كان يذهب إليه مالك من أن ذلك خاص في الطعام فلا معنى له. لأن ما اعتمدناه من الخبر عام في الجميع فلا وجه لتخصيص الطعام.
فإن قيل: فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الطعام قبل القبض والخاص أولى؟
قيل له: إنما يقال: إن الخاص أولى إذا كان وروده ينافي الحكم الذي ورد به العام، فأما إذا لم ينافه فلا وجه لذلك، لأنه يكون ذكر بعض ما اشتمل عليه العموم، وهذا لا يمنع من التعلق بالعموم.
وروي في ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال حدثنا ابن أبي داود، قال حدثنا أحمد بن خالد، قال: حدثنا ابن اسحاق، عن أبي الزناد، عن عبيد بن حنين، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يجوزها التجار إلى رحلهم فعم بذلك الطعام وغيره.
ويؤكد ما ذهبنا إليه أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ربح مالم يضمن، وما روي من قوله: (لا تبع ماليس عندك فكل ذلك يصحح ما ذهبنا إليه.
على أن العلل التي ذكرناها تحج ما لكا كما تحج أبا حنيفة.
وقلنا: إن المبيع لو كان عبداً فأعتق ككان العتق مردوداً، والمراد لو أعتقه المشتري الثاني لأن شراءه وقع فاسداً، لأنه اشترى مالم يقبضه بائعه على ما سلف القول فيه، وهذا يكون إذا أعتقه المشتري، وهو لم يقبضه، لأنه نص في الأيمان من المنتخب على أن من حلف أن لا يشتري فباع بيعاً فاسداً يجوز فيه العتق أو الهبة أنه يحنث فدل ذلك على أنه يوجب ثبوت الملك بالقبض في البيع الفاسد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ويأباه الشافعي.
ووجهه أن البائع يستحق البدل على المشتري بتسليطه عليه عن عقد فأشبه البيع الصحيح ألا ترى أنه لما ملك عليه البدل وهو الثمن لتسليطه عليه عن عقد أن يملكه المشتري.(63/4)

21 / 149
ع
En
A+
A-