وكذلك ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن امرأة سوداء ذكرت أنها أرضعتني وزوجتي، فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها تسأل عن وقت إرضاعها لهما، على أن الرضاع إذا ثبت أنه كالولادة في باب التحريم، وقد علمنا أن تباعد زمان الولادة كتقاربه، وجب أن يكون الرضاع كذلك؛ إذ المعتبر بحصول الإشتراك في السبب(1) الموجب للتحريم، دون اعتبار ما بين الوقتين من المدة، على أنه لا اشتباه أنها إذا أرضعتهما معاً كانا أخوين، فكذلك إذا أرضعتهما في وقتين متباعدين لأنهما قد اشتركا في لبن امرأة.
وقلنا: إنهما لا يتزوجان ولد هذه المرضعة لما بينهما من أخوة الرضاع، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في ابنة حمزة: (إنها ابنة أخي من الرضاعة).
وقلنا: لا يتزوجان ولد زوجها الذي أرضعت بلبنه لما بينا من تحريم لبن الفحل، فلا وجه لإعادته.
مسألة: [في نكاح أخوة المرضَع لأولاد مرضعته]
قال: فإن كان لهذا المرضَع أخ أو أخت لم يرضعا معه(2)، جاز لهما أن يتزوجا ولد هذه المرضعة.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (3).
ووجه ما قلناه أنهما أجنبيان ولا اشتراك بينهما في الرضاع، فلا أخوَّة بينهما، يبين ذلك أن أقوى حال الرضاع أن يكون كحال النسب في التحريم، وقد علمنا أن رجلاً لو كانت له أخت من أبيه، وأخ من أمه، لجاز له أن يزوج أخته من أبيه أخاه من أمه، إذ لا اشتراك بينهما في الولادة، وإن كان كل واحد منهما مشاركاً لمن شارك صاحبه، فوجب أن يكون ذلك حكم الرضاع، وأن لا يكون بين الذّين ذكرناهما تحريم، كما أنه لا تحريم بينهما لو كان بدل الرضاع ولادة.
مسألة: [في سقي الرضيع ما حلب من المرأة]
قال: ولو أن امرأة سقت الصبي لبنها باللخا، كان ذلك والإرضاع سواء في التحريم.
__________
(1) في (أ): النسب.
(2) في (ب): كان.
(3) انظر المنتخب 137.(62/11)


وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2). قال أبو العباس الحسني: وكذلك السعوط تخريجاً(3)، وذلك إن علم أنه جرى في الحلق، ووصل الجوف منه شيء.
ووجهه أن الإعتبار بوصول اللبن إلى جوف الصبي على وجه يغذي دون ما سواه، فكل لبن جرى في الحلق، ووصل إلى المعدة، حصل له حكم التحريم، يبين ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة)، وقوله: (الرضاع ما أنبت اللحم، وأنشز العظم)، ولا فصل في ذلك بين أن يرتضعه من الثدي، أو يستقي باللخاء.
فصل [في لبن الميِّتة]
حكى أبو /219/ العباس الحسني(4)، عنه القاسم رضي الله عنهما أنه قال في لبن الميتة: إنه يحرم، وبه قال أبو حنيفة، قال الشافعي: إنه لا يحرم(5).
ووجه ما ذهبنا إليه أن التحريم يتعلق بحصول اللبن في جوفه، فلا فرق بين أن يكون لبن الحية، أو الميتة.
ويمكن أن يحرر القياس فيه بأن يقال: هو لبن آدمية، فوجب أن يصح تعلق التحريم به، دليله لبن الحية، على أنه لا خلاف أنه لو أُخذ في قارورة وهي حية، ثم سقى الصبي بعد موتها أن التحريم يقع به، فكذلك إذا أخذ منها وقد ماتت؛ لأن الحكم به يتعلق.
فإن قيل: وطء الميتة، والعقد عليها، إذا لم يوجبا التحريم، فكذلك لبن الميتة؟
قيل له: قد بينا أن التحريم يتعلق بحصول اللبن في جوف الصبي، واللبن لا يلحقه حكم الموت؛ لأنه لا حياة فيه بدلالة أنه يؤخذ من الحي فلا(6) يألم به كما قلناه في الصوف والشعر فوجب أن لا يكون فرق بين أن يؤخذ من الحية أو الميتة، وليس كذلك حال الوطئ والعقد؛ لأن التي يتعلقان بها إذا ماتت تغير حكمهما، على أنه لا فرق بين أن يخرج الولد من الحية أو الميتة في الجميع، لما كان في حكم المنفصل عنها، وكذلك اللبن.
__________
(1) انظر الأحكام 1/482.
(2) انظر المنخب 137.
(3) نص عليه في المنتخب 137.
(4) في (أ): حكى أبو العباس الحسني رحمه الله عن القاسم رضي الله عنه.
(5) في (ب): لا يحرم.
(6) في (أ): ولا.(62/12)


فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَأُمُّهَاتِكُمْ اللآتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ}، فنسب الإرضاع، إليهن وعلَّق الحكم به، والميتة ليس لها(1) إرضاع.
قيل له: لا خلاف أنه لو أخذ من النائمة، والمغمى عليها، وسقي الصبي، يقع التحريم، وكذلك لو أخذ منها وهي حية، ثم يسقى الصبي بعد موتها، فبان أن الحكم يتعلق بحصول اللبن في جوفه دون أن يكون من صاحبة اللبن الإرضاع، على أنه لا فصل في التحريم بين الأم التي يكون منها الإرضاع، وبين الأخت التي لا ارضاع منها، فبان أن الحكم متعلق بماذكرناه دون أن يكون للمرضعة في الإرضاع فعل.
مسألة: [في إرضاع المرأة زوجها في الحولين]
قال: وإذا أرضعت المرأة زوجها في الحولين، صارت أمه من الرضاع، وانفسخ النكاح بينهما، ولم يجز للرجل الذي أرضعته بلبنه أن يتزوجها بعد ذلك. نص عليه في (المنتخب) (2).
وقال في (الأحكام) (3): له أن يتزوجها، ولا صداق لها على الصبي؛ لأن الفسخ كان من قبلها.
ما ذكرناه من انفساخ النكاح بين التي أرضعت زوجها في الحولين وبين زوجها، فلا خلاف فيه، ولا إشكال؛ لتنصيص الله تعالى على تحريم الأمهات اللآتي أرضعن بقوله تعالى: {وَأُمُّهَاتُكُمُ اللآتِي أَرْضَعْنَكُمْ}، وهذه قد صارت أمه من الرضاعة، فوجب أن يبطل النكاح الذي كان بينهما.
__________
(1) في (أ): منها.
(2) انظر المنتخب 138.
(3) انظر الأحام 1/390.(62/13)


ووجه ما ذكره في (المنتخب) من أنها لا تحل لزوجها الذي أرضعت بلبنه هو أن المرضَع صار ولداً على ما بيناه في(1) لبن الفحل وقد قال الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِيْنَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فإذا ثبت ذلك، حرمت المرأة؛ لأنها صارت حليلة ابنه، ولا خلاف أن المرضَع لو زوج بعد الرضاع امرأة أنها تحرم على الذي أرضع بلبنه، فكذلك التي ذكرناها، والعلة أنها امرأة ملكها ابنه من الرضاعة بعقد النكاح.
ووجه رواية (الأحكام) أن كونه ابناً له من الرضاعة صادف فسخ النكاح بينه وبين المرأة فلم يحصل المرضع مالكاً يعقد نكاحها مع أنه ابن من أرضع بلبنه فلم تكن المرأة على هذا قط حليله ابنه، لأن المرضَع لما صار ابنه، خرجت المرأة عن أن تكون له حليلهة فلم يجب أن تتناوله الآية وأيضاً حالها حال حليله الأجنبي وقياس عليها بمعنى أن من له بنوة(2) لم يملك عقدة نكاحها ـ يعني في حالما صار ابناً له ـ فأشبهت حليلة الأجنبي في أنه يجوز له نكاحها.
وما ذكرناه في(3) أنه لا صداق لها؛ لأن الفسخ كان من قِبَلها فهو صحيح على الروايتين، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأنه قد ثبت أن كل فسخ يكون من قبل المرأة لا يوجب شيئاً من المهر للتي لم يدخل بها، كما نقول في المرتدة ونحوها.
مسألة: [في إرضاع الزوج بعد الحولين]
قال: فإن أرضعت زوجها بعد الحولين، أو سقته لبنها طالبة لفراقه، لم تحرم عليه، وجاز للزوج أن يؤدبها. وهذا على أصله في الرضاع إذا وقع بعد الحولين، لم يكن له حكم، وقد مضى الكلام فيه مستقصى، فلا وجه لإعادته، فإذا ثبت ذلك، ثبت صحة ماذكرناه من أنها لو أرضعت زوجها بعد الحولين لم تحرم عليه.
__________
(1) في (أ): من.
(2) في (أ): بنوته.
(3) في (أ): من.(62/14)


وقلنا: لزوجها أن /220/ يؤدبها لما ذكره يحيى بن الحسين(1) عليه السلام من(2) الحديث عن علي عليهم السلام أن رجلاً سأله فقال: إن لي زوجة ذكرت أنها أرضعت جارية لي، فقال له علي (3): ائت جاريتك، فلا رضاع بعد فصال، وأنل زوجتك عقوبة ما صنعت، وفي بعض الأخبار: ((أحسن أدب زوجتك))، ولأنها قصدت ماليس لها من الإضرار بزوجها.
مسألة: [في المرأة تدعي إرضاع رجلاً وزوجته]
قال: ولو أن امرأة قالت أرضعت رجلاً وزوجته، استحب له أن يفارقها احتياطاً، فإن قامت بذلك بينه، بطل النكاح بينهما.
نص في (الأحكام) (4) على هذه المسألة، وذكر فيها أن الإحتياط(5) ما قلناه لكنه لم يصرح أن النكاح لا يبطل إلا بقيام البينة بالإرضاع، إلا أن تنصيصه في (الأحكام) في غير هذا الموضع(6) لم يصرح على أن شهدة المرأة الواحدة تقبل فيما لا يطلع عليه الرجال، كالتصريح بما ذكرناه، وعلى هذا حصَّل المذهب أبو العباس[الحسني رضي الله عنه](7).
ووجه الإحتياط فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أن عقبة بن عامر حين ذكر له أن امرأة سوداء ذكرت أنها أرضعته وزوجته، وقال: أخشى أن يكون ذلك كذباً منها قال له: كيف وقد قيل)؟، فنبه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم أن الأَولى أن يفارقها عند اعتراض الشبهة.
فأما ما قلناه من أن النكاح يبطل بقيام البينة، فهو ما ثبت في سائر ما يطلع عليه الرجال من حقوق الأموال والنكاح أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، وأن شهادة النساء وحدهن لا تقبل، إلا فيما لا يطلع عليه الرجال، فإذا ثبت ذلك، وكان، الرضاع مما يطلع عليه الرجال والنساء، ثبت أنه لا يثبت إلا بما يثبت به سائر ما ذكرناه في صحة ما /221/ قلناه.
__________
(1) انظر الأحكام 1/484 ، 487.
(2) في (أ): في.
(3) في (أ): عليه السلام.
(4) انظر الأحكام 1/410 ـ 411.
(5) في (أ): أن الاحتياط.
(6) في (أ): لم يصرح في غير هذا الموضع.
(7) في (أ) فقط.(62/15)

20 / 149
ع
En
A+
A-