باب القول في الإيلاء
[مسألة: في كيفية الإيلاء ومدته]
إذا آلى الرجل من امرأته، وهو أن يحلف بالله تعالى ألا يجامعها أربعة أشهر فما فوقها تُرك أربعة أشهر، ثم وقفه الإمام، وقال له فء إلى زوجتك، وكفر يمينك، أو طلقها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
لا خلاف أنه إذا حلف ألا يجامعها أكثر من أربعة أشهر يكون /180/ مولياً وإذا حلف أن لا يجامع امرأته أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً، إلا ما حكي عن قوم من المتقدمين أنهم جعلوا الإيلاء صحيحاً، وإن كان بدون أربعة أشهر.
وإنما الخلاف الآن إذا حلف على أربعة أشهر فقط، فإن أبا حنيفة يجعله مولياً، والشافعي يخالف فيه، وكذلك مالك.
والذي يدل على أنه مولٍ قوله تعالى: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ..} الآية، فجعل سبحانه هذه الأحكام جارية على كل مول من امرأته من غير اشتراط المدة، فوجب أن يكون كل حالف داخلاً فيه، قلَّت مدة حلفه أم كثرت إلا، ما منعه الدليل، لأن الألية في اللغة هي: الحلف، فكل حالف مول، فلما ثبت أن من حلف أن لا يجامعها أقل من أربعة أشهر ليس بمول حكماً، خصصناه للدلالة، وبقي الباقي على حكم العموم.
فإن قيل: الإيلاء وإن كان في اللغة على ما ذكرتم، فإن الشرع قد أكسبه حكماً وصفة لم تكن في اللغة، فمن أين لكم أن الحالف على دون أربعة أشهر يكون مولياً حتى يصح ما ادعيتم من تناول الظاهر له؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/433.(59/1)


قيل له: الشرع وإن جعل له حكماً زائداً، فلم يمنع أن يكون اسماً لكل حلف، فالواجب على هذا أن يعتبر ما يقتضيه الشرع، والشرع لم يقصره على مدة دون مدة، وإنما دل الإجماع على أن أحكام الإيلاء لا تتوجه على من آلى بدون أربعة أشهر، فيجب أن نقول به، ونقول فيما زاد على ذلك بما اقتضاه العموم، وليس كمخالفنا أن يقيس أربعة أشهر على مادونها إلا ولنا أن نقيسها على ما فوقها، ثم يكون قياسنا أولى؛ لإستناده إلى الظاهر؛ لأنه يفيد شرعاً وينقل.
فإن قيل: فأنتم تقولون بالوقف في الإيلاء، ولا وقف إلا بعد مضي أربعة أشهر، ولا وجه للوقف مع إنقضاء مدة اليمين.
قيل له: لسنا نسلم أنه لاوقف إلا بعد إنقضاء مدة اليمين، بل هو واجب متى دل الشرع عليه، ألا ترى أنه قد يطالب بالفيء، وإن لم يقتضِ الفيء حنثاً، وذلك إذا كان المولي ممنوعاً من الوطء لمرض أو نحوه فإنه يفيء بلسانه، ومع هذا لا يحصل حانثاً، فبان أن حكم الوقف لا يتعلق باليمين. وإذا جاز ذلك، لم يمتنع أن يوقف بعد مضي مدة اليمين حتى يفيء أو يطلق، وإن كان فيؤه لا يقتضي حنثاً.
وهذا الذي ذهبنا إليه هو قول علي عليه السلام، رواه زيد بن علي، عن أبيه عن جده، عن علي عليه عليهم السلام قال: الإيلاء: القسم، وهو الحلف، فإذا حلف الرجل أن لا يقرب امرأته أربعة أشهر أو أكثر من ذلك، فهو مول، وإذا كان دون أربعة أشهر، فليس بمول، وروي نحوه عن ابن عباس.
مسألة: [في وقف المولى بعد مضي أربعة اشهر]
والوقف ما ذهبنا إليه من أن الإمام يقفه بعد مضي أربعة أشهر حتى يفيء، أو يطلق، وهو المحفوظ عن علماء أهل البيت عليهم السلام، وبه قال مالك، والشافعي، وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام، رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال كان يوقف المولي بعد مضي أربعة أشهر فيقول: إما أن يفيء، وإما أن يطلق.(59/2)


قال أبو حنيفة يقع الطلاق بمضي المدة، وروي ذلك عن ابن مسعود، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ..} الآية.
ووجه الإستدلال منه هو أنه تعالى جعل لهم الفيء على الإطلاق، ولم يشترط لذلك قبل المدة ولا بعدها، فكان بعد المدة وقتاً له، كما أنه قبل المدة وقت له، بدلالة أنه يجوز أن يؤكد له ما قبل المدة، كما يجوز أن يؤكد ما بعدها، ويجوز أن يستثني ما بعد المدة، كما يجوز أن يستثني ما قبلها، فلما ثبت أن بعد المدة تمت إلى الفيء، كما تمت قبل المدة، علُم أن الجميع وقت له، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن الطلاق لا يقع بإنقضاء المدة، إذ وقوع الطلاق يمنع الفيء، فثبت بذلك ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: فلو صح الفيء بعد المدة كما يصح قبلها، لم يكن لضرب المدة معنى.
قيل له: يكون له معنى صحيح، وفائدة ظاهرة(1)، وذلك أن الفيء قبل المدة جائز غير واجب على الزوج، ولا يجوز أن يطالَب به، وبعد المدة يصير خارجاً عن الجواز إلى الوجوب ويتوجه المطالبة به على الزوج، وهذا مثل أن يشتري الرجل /181/ شيئاً مؤجلاً إلى شهر، ألا ترى أن توفية الثمن في الشهر وبعد الشهر صحيحة، إلا أنها قبل إنقضاء الشهر تكون جائزة، وبإنقضاء الشهر تكون خارجة عن الجواز إلى الوجوب، ويصح المطالبة به، فيكون ذلك فائدة ضرب الأجل، فكذلك القول في فائدة ضرب مدة الإيلاء.
فإن قيل: فإن الله تعالى جعل للمولي تربص أربعة أشهر، وأنتم إذا جعلتم له الفيء بعد المدة، فقد زدتم في المدة التي ضربها الله تعالى وحدَّها.
__________
(1) في (أ): صحيحه.(59/3)


قيل له: لسنا نزيد في هذه المدة؛ لأن المدة مضروبة لامتناع توجه المطالبة بالفيء عليه لا لوقوع الفيء، فنحن إذا قلنا: إن المطالبة تصح بعد المدة لا يكون زيادة في المدة، ألا ترى أن من لزمه أداء المال بعد شهر إذا قلنا إن التوفية تكون بعد إنقضاء الشهر، لا تكون زيادة في مدة الأجل، فكذلك لا نكون زدنا في مدة الإيلاء إذا جوزنا الفيئة بعد المدة، على أن المخالف يقول: إن أجل العِنِّين حول، وتخير المرأة بعد الحول، وليس يقول: إن ذلك زيادة في المدة، فكذلك ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}، بعد قوله سبحانه: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَربُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}، يدل على أن الفيء يجب أن يكون بعد الإيلاء؛ لأن الفاء توجب التعقيب.
قيل له: لا فصل بينك وبين من يقول(1): إنه يجب أن يكون بعد مضيِّ مدة تربصٍ؛ لأن الفاء توجب التعقيب، ألا ترى أنه قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}، بعد قوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
فإن قيل: قد ثبت أن الفيء مراداً قبل مضي المدة.
قيل له: وما في ذلك ما يمنع كونه مراداً بعدها، على أن قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} يدل ظاهره على أن هناك مسموعاً يتعلق به الحكم، وهذا يدل على أنه لا بد من الطلاق إن لم يكن فيء.
فإن قيل: إن هذا لا يجب؛ لأن الله تعالى قال: {وَقَاتِلُوا فِيْ سَبِيْلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ}، وليس هناك مسموع يتعلق به الحكم؟
__________
(1) في (أ): قال.(59/4)


قيل له: نحن قلنا: إن الظاهر يقتضي ما قلناه، ولم نقل: إن خلافه يستحيل، ألا ترى أن قول من يقول: أما علمت أن فلاناً يسمع، يدل على أن هناك مسموعاً، وقوله: أما علمت أن فلاناً يرى، يدل على أن هناك مرئياً، على أن الله تعالى قال: {إِذَا لَقِيْتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}، وقال أيضاً: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ}، فقد صح أن عند القتال مسموعاً يتعلق به الأمر، ومسموعاً يتعلق به النهي، فيسقط ما سألوا عنه.(59/5)

2 / 149
ع
En
A+
A-