والدليل على ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، فجعل تعالى رضاع الحولين(1) تمام الرضاع، والمراد به أنه تمام شرعاً، إذ لا وجه له يصح حمله عليه غير ما ذكرناه، ولأنه لا يصح أن يقال: إنه تمام التغذية، ولأنه لا فصل في ذلك بين مدة الحولين، وبين الأقل منها، والأكثر، وكذلك لا يصح أن يقال: إنه تمام من طريق العادة؛ لأن عادات الناس في الإرضاع تختلف فمن الناس من يرضع أقل من حولين، ومنهم من يرضع أكثر من ذلك، فلم يبقَ إلا ما ذكرناه، على أن الأولى في خطاب الله تعالى وخطاب رسوله أن يحمل على ما يفيده الشرع، دون مالا تعلق للشرع به، فكان حمله على ما ذكرنا أولى، فإذا ثبت بما بيناه أن الرضاع الذي يتعلق به الحكم الشرعي يتم بانقضاء الحولين، ثبت أن ما بعده ليس برضاع يتعلق به الحكم الشرعي، لأن(2) تمام الشيء يكون بوقوع آخر جزء من أجزائه، فإذا وقع آخر جزء من أجزائه، فلا حكم لما بعده، وفي الآية وجه آخر من الدلالة وهو أنه تعالى لما قال: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْرَّضَاعَةِ} دل ذلك على أن الرضاع قد تم من جميع الوجوه إلا ما خصه الدليل، فوجب أن يكون قد تم من حيث يتعلق به.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن اسم التمام قد يطلق على الشيء، وإن لم يكن تم إذا قارب التمام، كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أدرك عرفة، فقد تم حجه)، وكما روي: (من رفع رأسه من السجده الأخيرة فقد تمت صلاته)، كل ذلك المراد به مقاربة التمام؟
قيل له: هذا لا يصح في الموضع الذي اختلفنا فيه لوجهين:
أحدهما ـ إن ذلك وإن استعمل على سبيل التوسع والمجاز، وإنما يستعمل إذا كان الباقي يسيراً، فأما إذا بقيت ستة أشهر، فكذلك لا تستعمل فيه.
__________
(1) في (أ): حولين.
(2) في (أ): أن.(62/6)
والوجه الثاني ـ أنه وإن استعمل فيه، فعلى سبيل الإتساع والمجاز، ولا تصرف الآية عن الحقيقة إلى التوسع إلاَّ بالدلالة.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن قوله تعالى: {وَأُمُّهَاتُكُمُ اللآتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، يقتضي تحريم الرضاع سواء كان في الحولين، أو بعدهما؛ لحصول الإسم؟
قيل له: هذه لا يصح لكم التعلق بها على أصولكم؛ لأنكم تجعلون ما يجري مجراها مجملاً من الآيات(1) وهكذا قلتم في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، [وقوله تعالى]: {وَالزَّانِيَةِ وَالزَّانِيْ}، وقلتم لما ثبت أن الحكم يتعلق بالزنا والسرقة على شروط لا تُعرف من الظاهر، نحو أن لا يكون المرضع كبيراً، وأن تكون التي أرضعته(2) من لبن نفسها، فكل ذلك لا يعقل من الظاهر، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنه لا يصح لكم التعلق بما تعلقتم به، فإن امتنع منهم من هذا الأصل ممتنع وقال: إنه يصح التعلق به، قيل له: ه مخصوص بما بيناه ونبينه من بعد.
فإن قيل: فلستم باعترضاكم بالآية التي اعتمدناها على الآية التي اعتمدتموها على الآية التي تعلقنا بها بأولى منا إذا اعترضناكم بالآية التي اعتمدتموها؟
قيل له: لا سواء، وذلك أن الآية التي اعتمدناها أخص بموضع الخلاف، وفيها بيان مقدار المدة التي تنازعناها فيها، وليس كذلك الآية التي اعتمدتموها، فصار استدلالنا بها أولى.
ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا رضاع بعد فطام، ولا رضاع بعد فصام)، وقد /217/ بينا أن الرضاع الذي يتعلق به الحكم الشرعي ينقضي بانقضاء الحولين، فيجب أن يكون بعد الفطام، فإذا ثبت ذلك، ثبت ألاَّ رضاع بعده لقوله: (لا رضاع بعد فطام).
__________
(1) في (أ): اللعان.
(2) في (أ): أرضعته أرضعته.(62/7)
فإن قيل: لو كان الرضاع يتم وينقضي بانقضاء الحولين لم يكن لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}. معنى؟
قيل له: لسنا نقول إن كل رضاع ينقضي بانقضاء الحولين ولا ينقضي قبل انقضائهما، وإنما نقول ذلك في الرضاع الذي يتعلق به التحريم، فبطل(1) هذا السؤال.
وروي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام في قوله تعالى: {وَالْوالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، قال (الرضاع سنتان) فما كان من رضاع في الحولين حرَّم، وما كان بعد الحولين فلا يُحرِّم). وأيضاً لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن الرضاع الواقع في آخر السنة الثالثة لا يحرم، فكذلك الواقع في أولها، دليله الرابعة وما بعدها، يكشف صحة اعتبارنا السنةُ الأولى والثانية، لأن التحريم لما تعلق بالرضاع الواقع في أولهما، تعلق بالرضاع الواقع في آخرهما واستوت أحوال أولهما وآخرهما في هذا الباب، على أنه لادليل إلا ما ذكرناه يقتضي الفصل بين الزمان الذي يحرم فيه الرضاع، والزمان الذي لا يحرم فيه الرضاع، فوجب أن يكون الرجوع إليه؛ لأن الذي يذهبون إليه من التقدير لا دليل عليه، وهم أيضاً لا ينكرون أن ذلك مما لا دليل عليه، حتى قال أبو بكر الجصاص: إنه اجتهاد، وإنه لا يجب أن يكون عن دليل، ويقوى ذلك بقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ}، إلى قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِيْ عَامَيْنِ}، مع قوله (لا رضاع بعد فصال)، وكلما ذكرناه من الآية والخبر يحج زفر، وكذلك يحج عائشة ومن تابعها على قولها يجوز إرضاع الكبير، فأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لسهلة بنت سهيل بن عمرو زوجة أبي حذيفة بن عتبة أرضعي سالماً خمس رضعات فقد روي أنها خاص بها وانعقاد الإجماع بعدها يفسد قولها ويسقطه، واستدل يحيى عليه السلام: بما أخبرنا به أبو
__________
(1) في (أ): فيبطل.(62/8)
عبدالله النقاش، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، عن محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن رجلاً أتى علياً عليه السلام فقال: إن لي زوجة، وإني أصبت جارية(1) فأتيتها يوماً، فقالت لقد أرويتها من ثديي، فما تقول في ذلك؟ فقال علي عليه السلام(2) انطلق فخذ بأي رجلي أمتك شئت، لا رضاع إلا ما أنبت لحماً، أو شد عظماً، ولا رضاع بعد فصال).
مسألة: [في لبن الفحل]
قال: ويحرم الرضاع على الفحل، كما يحرم على المرأة، ويحرم الرضاع كتحريم النسب سواء.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3)، وهو قول زيد بن علي، والناصر للحق عليه السلام، وعامة الفقهاء، وحكي عن صاحب الظاهر أنه لا يحرم عليه، وحكى أبو بكر الجصاص أنه قول مالك في عدة من المتقدمين.
ووجه ذلك ما روي عن عائشة ـ أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليها فحجبته، ثم عرَّفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك فقال: (إئذني له)، وفي بعض الأخبار: (لا تحتجبي منه، فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وقد مضى اسناده في أول كتاب النكاح، وزوجة أبي القعيس هي التي كانت أرضعت عائشة، فدل ذلك على أنها حرمت على أبي القعيس لكونها محرمة على أخيه أفلح، فبان به صحة ما ذهبنا إليه، ويدل على ذلك مجرد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فكما أن ابنة الرجل نسباً محرمة عليه، يجب أن يحرم عليه ابنته من (4)الرضاعة.
ويدل على ذلك أن الولادة لما كانت سببا ً يوجِب إنتشار /218/ الحرمة، اشترك الوالدان في حرمته، فوجب أن يشتركا في حرمة الرضاع؛ لأنه سبب يوجب انتشار الحرمة، وكذلك الوطء الموجب للحرمة يشترك في حرمته الرجل والمرأة، فوجب أن يكون الرضاع كذلك.
__________
(1) في (أ): خادم.
(2) في (ب): عليه السلام فخذ.
(3) انظر الأحكام 1/485.
(4) في (ب): رضاعاً.(62/9)
فإن قيل: اللبن للمرأة دون الرجل؛ بدلالة أنها تأخذ بدل ارضاعها الولد.
قيل له: لا معتبر بما ذكرت، وذلك أن لبن الأمة يكون لسيدها في باب التصرف فيه، وإن كان لا يوجب الحرمة إذا لم يكن من سيدها، وإنما المعتبر أن يكون سبب نزوله من الرجل الذي يثبت لوطئه حكم.
وما قلناه: من أن تحريم الرضاع كتحريم النسب هو جملة تفصيلها قد تقدمها وتأخر عنها، فلا وجه لإفراده بالقول، وهذه الجملة هي التي نص عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
مسألة: [في المرأة ترضع أكثر من واحد في أكثر من وقت]
قال: ولو أن امرأة أرضعت صبياً وصبية في وقتين متقاربين أو متباعدين، سواء كان اللبن لولد، أو لولدين، حرم التناكح بينهما، وكانا أخوين، وكذلك لا يجوز لهما أن يتزوجا ولد هذه المرضعة، ولا ولد زوجها الذي(1) أرضعت بلبنه.
جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(2) و(المنتخب) (3) في مواضع مختلفة.
ووجه قولنا: أنَّ تباعد وقت الرضاع كتقاربه في إيجاب الحرمة أن إليه تعالى قال: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرِّضَاعَةِ}، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)، وليس في الآية الأولى، ولا في الخبر اشتراط تقارب مدة الرضاعين، فيجب أن يستوي حكم التقارب والتباعد.
__________
(1) في (ب): التي.
(2) انظر الأحكام 1/485 ـ 486.
(3) انظر المنتخب 137.(62/10)