باب القول في الرضاع
[مسألة في كمية الرضاع المحرمة ومدته]
يحرم من الرضاع ما قل أو كثر، إذا رضع الصبي في الحولين. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وهو قول زيد بن علي، والقاسم، والناصر عليهم السلام، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه ومالك، قال الشافعي لا يحرم أقل من خمس رضعات، وحكي عن قوم ثلاث رضعات. والأصل فيما ذهبنا إليه قول الله تعالى في آية التحريم: {وَأُمُّهَاتُكُمُ اللآتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرِّضَاعَةِ}، فعلق سبحانه التحريم بالإرضاع والرضاعة، فكلما انطلق عليه اسم الرضاعة، والإرضاع فيجب أن يكون مُحرِّماً بحكم الآية، وقد علمنا أن الإسم يقع على القليل والكثير، ويدل أيضاً على أن الإسم ينطلق على الرضعة الواحدة ما روي عن ابن الزبير قال: ((لا تحرم الرضعة والرضعتان))، فأجري الإسم وإن كان يعتقد أنه لا تحرم، وهو من أهل اللسان، وكذلك روي عن ابن عمر لما بلغه ذلك ((قضاء الله أولى من قضائه))، قال الله تعالى: {وَامُّهَاتُكُمْ اللآتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ}، فبين أن المفهوم من قوله أرضعنكم ما يحصل من قليله أو كثيره.
فإن قيل: فإن الله تعالى قال: {وَأُمُّهَاتُكُم اللآتِيْ أَرْضَعْنَكُمْ}، ولم يقل اللآتي أرضعنكم أمهاتكم، فيجب أن يثبت الأمومة أولاً، ثم يكون لإرضاعها حكم، وهذا لا يثبت من طريق اللغة، فيجب أن يرجع فيه إلى الشرع، فبطل تعلقكم بظاهر الآية.
__________
(1) انظر الأحكام 1/482 ، 483.
(2) انظر المنتخب 137.(62/1)
قيل له: إذا ثبت أن الأمومة تحصل بنفس(1) الرضاع، صح تعليق الحكم عليه، فلا فصل بين تقديم ذكر الأمهات على ذكر الإرضاع، أو ذكر الإرضاع على ذكر الأمهات، فإذا ثبت ذلك، بان أن تعلقنا بالآية صحيح، ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وقد مضى ذكره في أول(2) كتاب النكاح، فعلق الحكم على الجنس، فوجب أن يدخل فيه القليل كالكثير، وهذا في حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أما علمت أن الله حرم من الرضاعة(3) ما حرم من النسب).
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ((الرضعة الواحدة كالمائة الرضعة)). وروى زيد بن /215/ علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال: ((ما كان من رضاع في الحولين حرم)) وهذا يقتضي القليل والكثير.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحرم الرضعة، ولا الرضعتان)، وروي: (لا يحرم المصة، ولا المصتان)، وروي: (الإملاجة، والإملاجتان).
__________
(1) في (ب): بيقين.
(2) في (أ): في كتاب.
(3) في (ب): الرضاع.(62/2)
قيل له: هذه الأخبار تحج الشافعي من وجه، وذلك أن مذهبه القول بدليل الخطاب فدليل الخطاب في هذه الأخبار أن الثلاث تحرم، [فإذا ثبت أن الثلاث تحرم](1) فلا خلاف بيننا وبينه أن الثالثة كالأولى؛ لأنه لا يوجب التحريم بأقل من خمس رضعات، وأيضاً قوله: (المصة والمصتان)، لا يتناول موضع الخلاف؛ لأنا لا نختلف في أن المصة لا تحرم شيئاً، وأن الْمُحرِّم هو حصول اللبن في جوف الرضيع(2)، فيحمل على هذا أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عن المصة والمصتين إذا لم يعلم حصول اللبن في الجوف عندهما فقال: (لا تحرم المصة، والمصتان(3))، ويحتمل أن يكون من سمع ذلك رواه بلفظ الرضعة إعتقاداً بأن معناهما واحد، ولم يعلم أنه خرج على السبب، وقصر عليه.
وأيضاً روي عن ابن عباس أنه سئل عما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحرم الرضعة، والرضعتان)، فقال: قد كان ذلك، ثم نسخ، فأخبر أنه منسوخ، فدل ذلك على أنه عرف التاريخ فيه والنسخ.
فإن قيل: روي عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل الله تعالى من القرآن (عشر رضعات يحرمن)، فنسخ (بخمس معلومات يحرمن)، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهن مما يقرأن من القرآن، وكن في صحيفة تحت السرير، فلما اشتغلنا بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلت داجن فأكلته.
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (ب).
(2) في (ب): الصبي.
(3) في (ب): المصتان.(62/3)
قيل له: هذا الخبر لا يصح التعلق به لوجوه: منها أن ظاهره يقضي فساده(1) وذلك أنه لو كان مما يقرأ من القرآن لم يجز أن يكون طريقه خبر الواحد، ولا يجوز أيضاً أن يضيع حتى لا تثبت إلا من طريق إمرأة، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. ومنها أنها أخبرت أن العشر نُسخت بخمس، وهذا لا نمتنع منه، إلا أنا نقول أن الخمس لو ثبتت، لكانت منسوخة لقول ابن عباس في الرضعة والرضعتين لا تحرم، ما روي من الرضعة والرضعتين أنها لا تحرم، وأنها منسوخة، فلئن وجب أن يقبل قول عائشة أن العشر نسخت بخمس لوجب أن يقبل قول ابن العباس في النسخ، ويؤيد ذلك ما روى أبو عباس الحسني في (النصوص) بإسناده، عن الليث، عن مجاهد، عن علي عليه السلام قال: ((يحرم قليل الرضاع ما يحرم كثيره)). ويؤكد ذلك ما روي أن عقبة بن الحارث قال: يارسول الله، إني تزوجت إمرأة، ودخلت بها، فأتت امرأة سوداء فزعمت أنها أرضعتني وامرأتي، وإني أخاف أن تكون كاذبة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فكيف به وقد قيل))؟ ففارقها الرجل، فدل ذلك على أن الحكم يتعلق بما سمي رضاعاً؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل سلها عن عدد الرضعات. ويؤكد ذلك ما روي من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الرضاع ما أنبت اللحم، وأنشر العظم) فالقليل يأخذ بقسطه من سد الجوعة، وإنبات اللحم، وإنشاز العظم، ومما يدل على ذلك أن الرضاع سبب يوجب التحريم المؤبد بنفسه، فوجب أن لا يكون التكرير شرطاً فيه، دليله الجماع في تحريم الربائب، والعقد في تحريم أمهات النساء، وحلائل الأباء والأبناء، وليس يلزم عليه التحريم الواقع بالطلاق الثالث؛ لأنه غير متأبد، ولا يلزم عليه أيضاً تحريم اللعان، وأنه يتعلق بتكرير اللعان؛ لأن ليحيى عليه السلام فيه روايتين، إحدى الروايتين
__________
(1) في (أ): بفساده.(62/4)
أن ذلك التحريم(1) فيه غير مؤبد بجوز ارتفاعه بإكذاب الزوج نفسه، والرواية الثانية أنه مؤبد، وعلى هذه الرواية ايضاً لا يلزم؛ لأن تحريم اللعان عندنا لا يقع بنفس اللعان رواية واحدة، وإنما يقع بتفريق الحاكم، ويرجح قولنا أنه حاظر، وفيه إحتياط، واشترطنا أن يكون ذلك في الحولين لما ستذكره في المسألة التي تليها/216/.
مسألة: [في الرضاع بعد الحولين]
قال: فإن أرضع بعد استكمال الحولين، لم يحرم. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3)، وهو قول القاسم، والناصر(4)، والأظهر من قول عامة أهل البيت عليهم السلام، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وقال أبو حنيفة: مدة ذلك ثلاثون شهراً، وحكى أبو الحسن الكرخي عن زفر أنه ما استغنى به عن التغذي بغيره، وإن كانت ثلاث سنين.
__________
(1) في (ب): التحريم غير.
(2) انظر الأحكام 1/483 ـ 484.
(3) انظر المنتخب 138.
(4) في (ب): وهو قول الإمام الناصر.(62/5)