قال: وإذا كان للرجل ولد وجبت(1) عليه له النفقة حتى يبلغ، سواء كان للولد مال، أو لم يكن له مال، إذا كان مؤسراً، فإما إذا كان معسراً، فله أن ينفق على نفسه وعلى ولده من ماله بالمعروف. وجميعه منصوص عليه في (المنتخب) (2).
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من أن الأب يلزمه الإنفاق على الولد الصغير كان له مال، أو لم يكن، قوله تعالى: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}، فنهى سبحانه الأب عن الإضرار بولده، فاقتضى ظاهره منعه من انفاق مال الولد على الوالد(3)؛ لأن ذلك يكون اضراراً، من حيث ينتقص بالمال(4)، وإذا ثبت ذلك، ثبت أنه يلزمه الإنفاق عليه من مال نفسه، وذلك عام في الأولاد أجمع على جميع الأحوال، إلا حيث منع الدليل.
فإن قيل: فإنه يلزمكم أن تقولوا: إن ذلك يلزم الوالدة والوارث فقد قال الله تعالى: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}، ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}.؟
قيل له: هو مخصوص بدلالة الإجماع والإتفاق، فلا معترض علينا به.
ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، ثم قال تعالى: {وَعَلَى الْمُولُودِ لَهُ رِزْقَهُنَّ /210/ وَكِسْوَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وهذا عام في الوالدات(5) المطلقات، والزوجات، وفي الأولاد الذين لهم أموال، والذين لا أموال لهم، فإذا ثبت ذلك، لم يلزم والد الصبي لأمه المطلقة بعد انقضاء عدتها إلا على وجه الإنقاق على الولد، وإذا ثبت ذلك، ثبت وجوبه على الوالد، سواء كان الولد له مال، أو لا مال له، بعموم الآية، فثبت صحة ما قلناه.
__________
(1) في (ب): وجب عليه النفقة.
(2) انظر المنتخب 372.
(3) في (ب): الولد.
(4) في (ب): المال.
(5) في (أ): وهذا عام في الزوجات المطلقات.(61/28)


ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ومعي دينار فقال: أنفقه على نفسك، ثم قال: معي آخر، فقال: أنفقهه على أهلك، ثم قال: معي آخر، قال: أنفقه على ولدك، ثم قال: معي آخر، قال: أنفقه على عبدك، ثم قال في الخامسة: أنت أعلم)، فدل ذلك على وجوب الإنفاق على الولد، فقيراً كان أو غنياً؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يستثنِ غنَى الأولاد من فقيرهم.
فإن قيل: فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يستثن الكبير من الصغير، ومع هذا لا توجبون عليه الإنفاق على الكبير إذا كان واجداً.
قيل له: الظاهر يقتضي ذلك، لكنَّا خصصناه بالدلالة، وأيضاً هي نفقة تجب على المنفق في حال إعساره ويساره، فوجب ألا يسقطها مجرد يسار المنفَق عليه، دليله نفقة الزوجات.
فإن قيل: أليس الأب لو كان معسراً، وكان للإبن مال، لم تلزمه نفقته، فقد انتقضت العلة.
قيل له: نحن ذكرنا أن مجرد اليسار لا يسقطها، وفيما سألتم عنه سقطت لانضمام يسار الولد إلى إعسار الوالد، فسقط ما ادعيتموه من النقض، وأيضاً الوالد يملك على ولده الصغير عامة تصرفه ، فوجب أن يلزمه(1) نفقته، وإن كان واجداً، دليله الزوجة، يكشف ذلك ويوضحه أنه لا خلاف في أن العبد لو تزوج بحرة لم يلزمه نفقة ولده منها لَمَّا لم يملك عليه تصرفه، وكذلك الحر لو تزوج الأمة، واسترق ولده منها، لم يلزمه نفقته حتى يملك عليه تصرفه، فوضح بذلك أن الحكم تعلق بما ذكرناه.
وقلنا: إن الوالد إذا كان معسراً، أو كان الولد مؤسراً، سقطت نفقته؛ لأنه لا خلاف فيه.
وقلنا: إن للوالد أن ينفق على نفسه وعلى الولد بالمعروف، لما بيناه من أن نفقة الوالد(2) إذا كان معسراً تلزم الإبن المؤسر، وإن كان صغيراً.
__________
(1) في (أ): أن لا.
(2) في (ب): الأب.(61/29)


وقلنا: إن للأب أن ينفق على نفسه؛ لأنه ولي ابنه الصغير، واشترطنا أن ينفق بالمعروف؛ لأنه الواجب دون ما زاد عليه، وليس للولي أن يأخذ من مال الصبي إلا ما يجب دون ما زاد عليه؛ لأنه لا ولاية لأحد على الصبي فيما يضره.
باب القول في الحضانة
[مسألة: في أولى الناس بحضانة الولد]
أم الصبي أولى به إلى أن يعقل ويطيق الأدب مالم تتزوج. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وذكر اطاقة الأدب في (الأحكام) (2)، وعبر عنه في (المنتخب) (3) بأن قال: إلى أن يعقل ويقوم بنفسه، وفسر ذلك أبو العباس الحسني في (النصوص) فقال: هو أن يأكل ويشرب، ويلبس بنفسه، وحكي نحوه عن أبي حنيفة.
ما ذكرناه من أن الأم أولى مالم تتزوج مما لا أحفظ فيه خلافاً.
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، وقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، إلى قوله: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}، فأمر تعالى بإيتائهن أجورهن إن أرضعن، ولم يُجِزْ العدول عنهن إلا عند التعاسر.
ثم ما روي(4) فيه عن النبي صلى الله عليه وآله /211/ وسلم، رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: (أن امرأة قالت: يارسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء وإن أباه طلقني، وأراد أن ينزعه مني، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنت أحق به مالم تنكحي)، فجعل الحضانة لها مالم تنكح، وهذا نص فيما ذكرناه، ولأن الأم أحنى عليه وأرفق به مالم تتزوج، ولأنها إذا تزوجت اشتغلت عنه بزوجها، فلو أبقيناها على الحضانة، كنا أدخلنا على المولود الضرر، ولا ولاية لأحد على الصغير فيما يضره.
__________
(1) انظر المنتخب 371.
(2) انظر الأحكام 1/411.
(3) انظر المنتخب 371.
(4) في (ب): روى عن.(61/30)


وقلنا: إن ذلك لها إلى أن يستقل الولد بنفسه؛ لأن الولد إذا بلغ ذلك المبلغ، استغنى عن الحضانة، فوجب أن ينقطع عنه ولاية الحضانة، ولأنه لا خلاف في الذكر أنه إذا بلغ ذلك المبلغ، انقطع عنه حق الأم من الحضانة، فكذلك الأنثى، والمعنى استقلال الولد بنفسه، وكذلك لاخلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن حضانة الأخت والخالة تنقطع عن الذكر والأنثى إذا بلغ ذلك المبلغ فكذلك حضانة الأم للعلة التي ذكرناها، ولأن الولد إذا بلغ ذلك المبلغ، يكون الأب أقدر على تأديبه وتثقيفه، فوجب أن يكون أولى به.
مسألة: [في سقوط حق الأم في الحضانة بالنكاح]
قال: فإن تزوجت، فالأب أولى به منها ومن أمها، وكذلك لو طلقها الزوج الثاني، فالأب أولى به [من أمها] (1) وهذا منصوص عليه في باب تخيير الغلام من (المنتخب) (2)، أما ما ذهبنا غليه من أن حقها من الحضانة يبطل إذا تزوجت، فمما لا أحفظ فيه خلافاً، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت أحق به مالم تنكحي)، فجعلها أحق به بشرط أنه لا تنكح، فإذا زال الشرط، زال المشروط، ولأن في ذلك ضرراً على المولود.
وقلنا: إن الزوج الثاني وإن طلقها، لم يَعد حقها من الحضانة، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت أحق به مالم تنكحي)، فجعلها أحق به بشرط ألا تنكح، فلم يستثن حالها إن طلقها الزوج الثاني، فوجب أن يجرى ذلك على عموم الأحوال، ويدل على ذلك أيضاً ما أجمعوا عليه أن تزوجها بغير أبيه يُبطل حقها من الحضانة ما دامت زوجة له، فكذلك إذا طلقها، والمعنى حصول تزوجها بغير أبيه، وأيضاً لو أبرأت زوجها من مهرها، لم يعد وجوب المهر، وكذلك الحضانة إذا بطلت بالتزويج لم تعد، والعلة أنها أبطلت حقها بأمر هو مباح.
فإن قيل: فهذا ينتقض بإبرائها زوجهامن النفقة؛ لأن لها أن تطالب بها متى شاءت.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) انظر المنتخب 186.(61/31)


قيل له: الإبراء لا يصح إلا مما وجب من نفقتها، ولم يرجع، وإنما لها أن تطالب بها فيما بعد، لأن الإبراء لم يتناوله فكذلك(1) القَسْم إن سألوا فيه كان الجواب ما ذكرناه.
فإن قيل: الناشزة تبطل نفقتها بالنشوز ثم إذا عادت إلى زوجها وجبت(2) نفقتها.
قيل له: هذا لا يعترض علتنا؛ لأنا اشترطنا فيها أنها أبطلت حقها بمباح، والنشوز محظور.
ويشهد لما ذكرناه سائر ما يبطل الحقوق كالعفو عن القصاص أو الدية، أو ترك الشفعة، أو إبطال الخيار فيما للإنسان فيه الخيار.
فإن قيل: إنما أوجب(3) التزوج قطعَ حقها من الحضانة؛ لأنها إذا تزوجت اشتغلت عن الولد، فإذا طلقها زوجها، زال ذلك المانع، فوجب أن تعود كما كانت.
قيل له: لا يمتنع أن الذي ذكرتم قد أوجب قطع حقها، وإن كان له موجب آخر، وهو أن تزوجها يكشف من حالها أنها قليلة الإهتمام بأمر ولدها غير مفكرة في /212/ اضاعته، وإذا كان ذلك كذلك، فطلاق الزوج الثاني لا يمنع ما انكشف من حالها، فكذلك لا يجب أن يعود حقها من الحضانة، وأيضاً لا خلاف أن فراق الزوج لا يوجب الحضانة لمن يكون معها من هو أولى بالحضانة منها، فكذلك الأم، فإذا ثبت بما بيناه أن حقها من الحضانة لا يعود بفراق زوجها لها، كان ذلك حكم أمها جدة الصبي ـ إذ لم يفصل أحد بين المسألتين، وإذ هي كالقائمة مقامها، فإذا لم يكن لها حق، لم يكن لمن يقوم مقامها.
مسألة [في ذكر أهل الحضانة على الأولوية]
__________
(1) في (ب): وكذلك.
(2) في (ب): وجب.
(3) في (ب): وجب.(61/32)

16 / 149
ع
En
A+
A-