قيل له: العلة في ذلك أن كل واحد منهما ليس بذي رحم، وقد ثبت أنه مراعى في هذا الباب بالإنفاق، فإذا صح تعلق(1) الحكم بالإنفاق، لم يكن لإضافة وصف زائد إليه معنى، وهو قولهم: مُحرَّم، وكذلك من قال: إنها مقصورة على التعصيب يحجهم ما قدمناه من الآية والعبرة.
مسألة: [في فقد أحد شروط وجوب الإنفاق]
ولو أن رجلاً معسراً كان له ابن معسر، وأخ مؤسر، فلا نفقة له على واحد منهما. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
ووجهه ما بيناه في المسألة التي قبل هذه، أن النفقة تلزم بإجتماع أمرين: الرحم، والإرث، فإذا ثبت ذلك، سقطت النفقة عن الأخ المؤسر، لأنه لا يرث مع الإبن، وسقطت عن الإبن لكونه معسراً، فلم يلزم واحد منهما نفقته.
مسألة: [في المعسر له سببان وارثان مؤسر ومعسر]
قال: وإن(3) كان له أخوان أحدهما مؤسر، والآخر معسر، حكم بنفقته على الأخ المؤسر، ورواية (المنتخب) (4) يحكم بنصف نفقته على الأخ المؤسر، ولا يحكم بالنصف على واحد منهما.
ما ذكرناه أولاً هو رواية الأحكام، ووجهه أن هذا المعسر له سبب وارث ذو يسار فوجب أن يحكم له بتمام قوته عليه.
دليله لو لم يكن له غير ذا الأخ الموسر، يؤكد ذلك ويوضحه أن المرعى فيه ليس هو بتحقيق الإرث، لأنا نجوز أن يكون الموسر يموت فيرثه المعسر، أو يموت قبل أخيه الآخر فينتقل كمال الإرث عنه، أو يموت ذلك فينتقل كمال الإرث إليه، وإنما المراعَى أن يكون هو في الحال وارثاً لو مات المعسر، فإذا ثبت ذلك، لم يجب أن يسقط عنه بعض النفقة لكون غيره في حكمه في معنى الإرث.
فإن قيل: لو كان ذلك كذلك، لوجب أن يلزمه تمام النفقة، وإن كان الأخ الآخر مؤسراً.
__________
(1) في (ب): تعلق الحكم به بالإنفاق ولم.
(2) انظر المنتخب 371.
(3) في (ب): إذا.
(4) انظر المنتخب 372 وهو بالمعنى فقط ولم يذكر هذا المثال بعينه.(61/23)
قيل له: هذا لا يلزم؛ لأن الأخ الآخر إذا كان مؤسراً، فليس أحدهما بالإنفاق أولى من الآخر، فوجب أن يستويا فيه، على أنا قد علمنا أن اليسار شرط في لزوم النفقة كالنسب والأرث، فكما أنه لوزال كونه وارثاً، بأن يصير محجوباً، سقطت عنه النفقة، ولزم الوارث تمامها، وكذلك لو قدرناه غير نسيب، وإن كان وارثاً مؤسراً، لسقطت عنه، ولزم النسيب تمامها، فكذلك إذا فقد اليسار يجب أن يسقط عنه، ويلزم تمامها المؤسر، إذ اليسار كالنسب في الإرث في هذا الباب، وأيضاً موضوع النفقة إنما هو لدفع الضرر عن المنفَق عليه، فلو(1) لم نحكم له بتمام نفقته، لم /208/ نكن دفعنا عنه الضرر، والزام الأخ المؤسر تمام النفقة أذهب في الباب الذي عليه وضعت النفقة من المواساة، ودفع الضرر، فوجب أن يكون أولى.
ووجه رواية (المنتخب) أن الأخوين لو كانا مؤسرين، للزم كل واحد منهما نصف النفقة، فكذلك إذا كان أحدهما معسراً، والعلة أن نصيبه من الإرث إنما هو النصف، ولأنه وجد النفقة مقسومة على حسب المواريث، فوجب أن يكون الذي لا يرث أكثر من النصف، لا يلزمه من النفقة أكثر من النصف، وأيضاً دفع الضرر لا يجب أن يراعى في كل وجه، ألا ترى أن من له أخ مؤسر وابن معسر، فلا نفقة له، ولا يدفع عنه ضرر الإعسار، لما لم يكن الوارث مؤسراً، فكذلك إذا كان غير وارث لبعض إرثه، لم يلزم أن يدفع عنه بعض الضرر.
مسألة: [في المعسر له ابنان معسر ومؤسر]
قال: وإن(2) كان للرجل ابنان، أحدهما مؤسر، والآخر معسر، حكم بنفقته كلها على الإبن المؤسر، في الروايتين جميعاً.
أما وجهه على رواية (الأحكام) (3) فهو الذي مضى، وهو القياس، ويمكن أن يقوى به ما مضى من رواية (الأحكام) على رواية المنتخب.
__________
(1) في (ب): فلعل الحكم بتمام نفقته لم يكن دفعنا عنه لإضرار.
(2) في (أ): وإذا.
(3) انظر الأحكام 1/496، 497 وهو بالمعنى كما سبق.(61/24)
وأما وجهه على رواية (المنتخب) (1) فهو أن سبب الأب أوكد؛ لأنه لا خلاف أن نفقته تلزم كافراً كان أو مسلماً، وليس كذلك حال سائر ذوي الأرحام، فوجب أن يكون استحقاقه أقوى، وليس ذلك إلا الحكم بلزوم نفقته على الأحوال كلها، ويؤكد ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت ومالك لأبيك)، فاقتضى الظاهر أن يكون كل ما يملك ابنه المؤسر له، فوجب أن يحكم(2) له منه بتمام نفقته.
فصل: [في شرط المنفَقِ عليه]
لم يراع يحيى بن الحسين صلوات الله عليه لإيجاب النفقة على ذوي الأسباب غير إعسار المنفَق عليه فقط، وراعى فيه أبو حنيفة إن كان صغيراً، أو كان أنثى، الفقر فقط مثل ما راعيناه به، فإن كان ذكراً كبيراً، راعى فيه مع الفقر الزمانة.
ووجه ما ذهبنا إليه أنه ممن يستحق عليه الإنفاق للرحم والإعسار، فوجب ألا يراعى لإيجاب نفقته على قريبه المؤسر إلا الإعسار، دليله الإناث، وصغار الذكور، وأيضاً لا خلاف أن من يلزمه النفقة لقريبه(3) المعسر لا يختلف ما يراعى من حاله، سواء كان ذكراً أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، فوجب ألا يختلف ما لا يراعى من حال من يلزمه النفقة له في ذلك، والعلة أن كل واحد منهما يتعلق به حكم نفقة الإعسار.
فإن قيل: الذكر إذا كان كبيراً أمكنه التكسب، فلا وجه لإلزام نفقته غيره.
__________
(1) انظر المنتخب 372.
(2) في (ب): يحكم له بتمام.
(3) في (ب): يلزم النفقة لقربيه لا.(61/25)
قيل له: والأنثى أيضاً إذا كانت كبيرة، والذكر وإن كان صغيراً، إذا كان خارجاً عن حد الطفوليَّة، فإن كل واحد منهما يمكنه التكسب، ولا خلاف أن النفقة تجب لهما، وإن لم يكن بهما زمانة، على أن الزمانة لو لم تكن في الآلة التي يحتاج إليها في التكسب، أمكنه التكسب، فسقط هذا الإعتراض، ويؤكد ما ذهبنا إليه أن الحقوق التي تختص الفقراء، كالزكوات، والعشور، والكفارات، والنذور، يستوي في استحقاقها الصغار والكبار، والذكور والإناث، فوجب أن يستووا فيما ذكرناه، وأيضاً النفقات موضوعة للمواساة، والمعونة، كتحمل(1) العاقلة جناية من يعقلون عنه، ثم وجدنا ما يعقل من الجنايات لا ينفصل فيها(2) أحوال هؤلاء، بل يجب أن يستووا، فوجب أن يكون ذلك شاهداً لما ذهبنا إليه في النفقات، على أن عموم قوله تعالى: {وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، يدل على صحة ما قلناه في هذا الباب.
باب القول في نفقة الرضيع
[مسألة: في وجوب الرضاعة على الأم]
إذا ولد المولود وجب على أمه أن ترضعه اللباء، وذلك يكون مقدار يوم إلى ثلاثة /209/ أيام، ويجب بعد ذلك على الأب أن يستأجر من يرضعه. والأم أولى أن تُسْتَأجَر لإرضاعه إن طلبته، يحكم لها بذلك على الأب بعد فراقه لها حتى يفصل الولد، ويكون ذلك إذا أتى عليه حولان. وجميعه منصوص عليه في (المنتخب) (3).
ووجه ما قلناه من أن على الأم أن ترضع ولدها اللباء ما استقر في العادة أن غير اللباء من الألبان لا يقوم مقام اللباء في التغذية والتقوية، وفي قطعه عن الولد الأضرار(4) به، وقد قال الله تعالى: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}.
ووجه تقديره باليوم الواحد إلى ثلاثة أيام أن الصبي يستغني عنه في غالب العادة إذا أرضع(5) هذه المدة.
__________
(1) في (ب): كتحميل.
(2) في (ب): لا ينفصل في أحوال.
(3) انظر المنتخب 370 ـ 371.
(4) في (ب): إضرار.
(5) في (ب): رضع.(61/26)
وقلنا: إن على الأب أن يستأجر من يرضعه؛ لأنه لا خلاف في ذلك، ولأن الإرضاع(1) ليس هو من موجب النكاح، وقد دل على ذلك قول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، إلى قوله: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}.
وقلنا: إن الأم أولى أن تستأجر إن طلبته؛ لأنها على الولد أحنى وأدنى إلى دفع المضار عنه؛ لأن الولد قد يعَاف لبن غير أمه، وقد نهى الله تعالى الوالد عن المضارة بالولد، كما نهى الوالدة بقوله: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}، ولقوله تعالى: {فَإِن أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، فأمر (2)بإتيانهن الأجور متى اخترن الرضاع، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (لا توله والدة عن ولدها)، ولأنه منهي عن التفريق بينهما في السبي.
وقلنا: إن ذلك إلى غاية مدة الرضاع؛ لأن حكم الإرضاع قائم فيها، وجعلنا أمدها حولين لقوله سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، وسنورد في هذا أتم من هذا البيان في باب الرضاع بعون الله تعالى.
مسألة: [في نفقة الرضيع على من تكون]
قال: فإن لم يكن له والد، وكان له مال أنفق عليه من ماله، وإن لم يكن له مال، كانت نفقته على قريبه من ورثته، يُحكم بها على قدر مواريثهم. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (3).
قلنا: إن لم يكن له والد وكان له مال أنفق عليه من ماله؛ لأنه لا خلاف فيه، ولأن المرء أولى بماله، ولأن إضاعته غير جائزة، ولا يلزم ورثته الإنفاق عليه ليساره، فلم يبقَ إلا أن ينفق عليه من ماله.
وقلنا: إنه إن لم يكن له مال، كانت نفقته على ورثته؛ لما بيناه قبل هذا في النفقة على ذوي الأنساب(4)، فلا جه لإعادته.
مسألة: [في نفقة الأب على ولده]
__________
(1) في (ب): الرضاع.
(2) في (ب): يأمر.
(3) انظر المنتخب 372.
(4) في (ب): الأسباب.(61/27)