قيل له: ليس فيما(1) روي عنه ما يدل على أنه عليه السلام لم يكن يوجبها للحائل، وجائز أن يكون سأله سائل عن الحامل إذا توفي عنها زوجها، فأفتى بإيجاب النفقة لها، فروى السامع ما سمعه يفتي به، لا أنه عليه السلام لم يكن يرى إيجابها للحائل، على أنها إذا وجبت للحامل، فيجب أن تجب للحائل قياساً عليها، والعلة أنها معتدة من وفاة، فوجب أن يكون نفقتها من جملة الميراث، ولا خلاف أنها لو كانت مطلقة طلاقاً رجعياً، لوجبت النفقة لها، فكذلك إذا توفي عنها زوجها، والمعنى(2) أنها معتدة عن نكاح، ومحبوسة(3) بحرمة النكاح، ويؤيد هذه العلة أنها إذا كانت متزوجة، يجب لها النفقة بهذه العلة، ومتى زالت، زال الحكم.
فإن قيل: فإن الرجل إذا مات، انقطعت حقوقه عن ماله، فلا يجوز أن يتجدد ذلك بوجوب حق.
قيل له: يجوز أن يتجدد ذلك إذا كان السبب متقدماً، كما يتجدد وجوب الكفن، والوصايا؛ للأسباب التي تقدم.
مسألة: [في نفقة من أسلم زوجها أو العكس]
قال: وإذا أسلم الكافر ولم تسلم امرأته فلا نفقة لها، فإن أسلمت هي، ولم يسلم الزوج، فلها النفقة ما دامت في العدة. وهذا منصوص عليه في كتاب النفقات من (الأحكام) (4).
__________
(1) في (ب): مما.
(2) في (أ) والمعنى العلّة.
(3) في (أ): أو.
(4) انظر الأحكام 1/495.(61/18)


ووجهه أن الكافر إذا أسلم، ولم تسلم امرأته، فهي في حكم الناشزة؛ لأنها بإقامتها على الكفر ممتنعة من زوجها بمعصية، ألا ترى أنها لو أسلمت، لحلت لزوجها، فإذا ثبت أن إقامتها على الكفر امتناع عن(1) الزوج بمعصية، وجب أن تسقط نفقتها، دليله الناشزة، فأما إن أسلمت هي، ولم يسلم، فإنها ممتنعة من زوجها بحق، وممكن لزوجها إزالة ذلك المانع بأن يسلم فسبيلها سبيل من منعت نفسها لاقتضاء مهرها. قبل الدخول في عقد أوجب تسليم نفسها، في أن نفقتها واجبة؛ لأنها امتنعت بحق، على ما سلف القول فيه، وهاتان المسألتان مبنيتان على أن الفرقة لا تقع بينهما إلا بانقضاء العدة، وقد بينا الكلام في ذلك فيما تقدم من كتاب النكاح، فلا وجه لإعادته.
باب القول في نفقة المؤسر على قريبه المعسر(2)
[مسألة: في نفقة الأبوين وذوي الأرحام]
يجب على الْمؤسر، رجلاً كان أو امرأة، صغيراً كان أو كبيراً، نفقة أبويه إذا كانا معسرين، مسلمَين كانا أو كافرين، فأما سائر الأقرباء، فلا نفقة لهم إلا إذا كانوا مسلمين. وهذا جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(3).
ووجه قولنا: إنه لا فصل بين أن يكون الذي لزمته نفقه أبويه(4)، أو غيرهما من أقاربه، رجلاً أو امرأة، صغيراً أو كبيراً، هو أن الحقوق المتعلقة بالأموال استوى فيها الرجال والنساء، والصغار والكبار، إذا اشتركوا في السبب الموجِب لها، كذلك الجنايات التي يتعلق بها الأموال لا فصل بينهم فيما يلزم من طريق المال، فكذلك لا فصل بينهم في باب العشور، وعندنا في سائر الزكوات، فإذا ثبت ذلك، وكان الموجب للنفقات هو الرحم، والنسب، فيجب أن يستوي الرجال والنساء، والصغار والكبار فيها؛ لاشتراكهم في سببها، وهو(5) النسب، والرحم.
__________
(1) في (ب): من.
(2) في (أ): باب القول في نفقة المعسر على قريبه المؤسر.
(3) انظر الأحكام 1/496 ، 498.
(4) في (أ): نفقته.
(5) في (ب): وهي.(61/19)


وقلنا: إن نفقة الأبوين واجبة، مسلمَين كانا، أو كافرين، لقول الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ لِيْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِيْ الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}، والمصاحبة في الدنيا على سبيل المعروف يقتضي ألا يشبع ويجوعان، وألا يكتسي ويعريان، مع قدرته على أن يشبعهما ويكسوهما، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله /206/ وسلم: (أنت ومالك لأبيك)، فاقتضى ظاهره أن يكون الأب، معسراً كان أو مؤسراً، كافراً كان أو مسلماً، أن يتصرف في مال ابنه، فلما أجمعوا على أنه ممنوع من ذلك فيما زاد على قدر الحاجة عند الإعسار، بقي ذلك على مقتضى الظاهر، مسلماً كان الأب أو كافراً، وإذا ثبت ذلك في الأب، ثبت في الأم؛ لاشتراكهما في الولادة، ولأن أحداً لم يفصل بينهما في هذا الباب، وأما سائر الأقرباء فقلنا: إنهم لا نفقة لهم على المسلم إلا إذا كانوا مسلمين؛ لأنه لاخلاف فيه، ولأن الحقوق التي بينهم منقطعة.
مسألة: [في ماهية النفقة]
قال: والنفقة التي يُحكم بها هي: الإطعام، والكسوة، والسكنى، والخادم إن كان المنفَق عليه لا يطيق خدمة نفسه؛ لمرض، أو صغر، أو كِبرَ. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجهه قول الله تعالى: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَالِدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، فدل على وجوب ما ذكرنا، ولأن إيجاب بعض ما قلناه ليس بأولى من إيجاب البعض؛ إذ الجميع قوام المرء وقوته الذي لا يستغني عنه.
مسألة: [في تقسيم النفقة على حسب الأرث]
__________
(1) انظر الأحكام 1/498.(61/20)


قال: ويحكم على المؤسر بنفقة قريبه المعسر إذا كان وارثاً له على قدر موروثه منه، فإن لم يكن وارثاً، فلا نفقة له(1) عليه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3)، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب أبو حنيفة إلى أن النفقة تجب على كل ذي رحم محرم إذا كان من أهل الميراث، والشافعي قصره على الولادة فقط، وحكي عن الأوزاعي أنها على العصبة دون النساء، وحكي عن ابن أبي ليلى، وأبي ثور أنها تلزم كل وارث بسبب.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلِدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، ووجه الإستدلال من الآية أن الله تعالى خصص الوالدين والورثة بالمنع من المضارة بالولد، ولا مضارة يقع التخصيص بالمنع منها إلا ترك الإنفاق، وما يتبعه، فثبت أنهم قد أوجب عليهم الإنفاق.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن المراد به سائر الأضرار؟
قيل له: المنع من سائر الأضرار لا يختص به الوالدان والورثة؛ لأنهم والأجانب فيه سواء، فبان أن المراد ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد به وارثاً واحداً، وهو الجد؟
قيل له: الألف واللام يفيدان الجنس إذا دخلا في الكلام على هذا الحد، فلا يجوز أن يقتصر على وارث واحد إلا بالدلالة؛ لأنه يكون تخصيصاً، وتخصيص العموم لا يجوز إلا بالدلالة.
فإن قيل: نخصه بما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه).
قيل له: هذا لا يتناول موضع الخلاف؛ لأن الخلاف واقع في لزوم الإخراج، وليس كذلك في الحديث.
فإن قيل: فقد روي عن علي(4) عليه السلام أنه قال: (ليس في المال حق سوى الزكاة).
قيل له: ما استدللنا به من الأية أخص بموضع الخلاف من هذا الخبر، فلا يجوز الإعتراض به علينا.
__________
(1) في (ب): نفقة له.
(2) انظر الأحكام 1/496.
(3) انظر المنتخب 371.
(4) في (أ): عنه.(61/21)


فإن قيل: فيجب أن تدخل فيها الزوجة، وولي النعمة.
قيل له: نخصهما بدلالة الإجماع، وقد روى هنَّاد تأويل هذه الآية على ما ذهبنا إليه، عن عطاء، وإبراهيم بأسا نيده عنهما، ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَأُلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، ولم يبين(1) الأمر الذي يكون بعضهم أولى ببعض فيه، فوجب أن يكون عاماً في جميع ما يجوز أن يكون مراداً به؛ إذ ليس بعض ذلك بأن يكون مراداً أولى من بعض، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في الإنفاق عليه، وإذا ثبت ذلك صح ما ذهبنا إليه.
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه ما أجمعنا عليه من أن الولد تلزمه نفقة /207/ أبويه، وإن كان الأبوان يلزمهما نفقة الأولاد، فوجب أن يكون كل سبب من أهل الإنفاق يلزمه ذلك للفاقة، والعلة أنه سبب، أو يقال: إن الولد يلزمه نفقة أبيه الفقير، فكذلك سائر ما اختلفنا فيهم، والمعنى أن كل واحد وارث بسبب، وعلتنا أقوى من كل ما يعلِل به المخالف؛ لأن كونه سبباً مما أجمع على أنه مراعى بكونه وارثاً قد نبه النص عليه، ويمكن أن يقوى بأنها أعم من كل ما يعلَّل به في هذا الباب، وبأن فوائدها في الشرع أزيد، وبأنها تقتضي إيجاباً يسقطه ما يعارضها من العلل، وجميع ذلك هو استدلالٌ على أبي حنيفة والشافعي في المواضع التي يخالفانا فيها، وإن كان الكلام إذا كان مع أبي حنيفة أوسع مجالاً؛ لإيجابه النفقة على كل ذي رحم محرم، على أن أصحابه استدلوا بما استدللنا به من قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، ثم قالوا فيمن له خال وابن عم: إن النفقة تلزم الخال، وإن لم يكن وارثاً، وكان ابن العم وارثا، قالوا: لأن الخال على الجملة من أهل الميراث، وهذا خلاف الظاهر، فوجب سقوطه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ابن العم لا تلزمه النفقة، قياساً على مولى النعمة، والزوجة؛ لأنه ليس بذي رحم محرم؟
__________
(1) في (ب): يتبين.(61/22)

14 / 149
ع
En
A+
A-