قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت، بل يجب للمنكر أن يذكر للإنكار وجهاً يجوز أن يُنكرَ من أجله، وعمر لم يزد على أن قال: لا نقبل خبر امرأة لا ندري أصدقت، أم كذبت، في بعض الأخبار، وفي بعضها، أو سَهِيتَ،وهذا لايجوز أن يكون وجهاً للإنكار، ألا ترى أنا لو جعلنا ذلك وجهاً للإنكار، لوجب أن ينكر جميع أخبار الآحاد، لأن كل خبر الواحد يجوز على راويه الكذب والسهو، ولا ندري أصدق، أم لا، فلما كان هذا هكذا لم يكن ذلك وجهاً يُنكرَ من أجله خبر الواحد، فوجب أن يسقط إنكار عمر له.
فإن قيل: فإنه قال: لا نقبل على كتاب ربنا، وسنة(1) نبينا صلى الله عليه وآله وسلم خبر امرأة لا ندري أصدقت، أم لا، فبيَّن أنها اعترضت بخبرها(2) على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فوجب أن يسقط خبرها.
قيل له: الإعتراض على وجهين:
أحدهما: أن يعترضه إعتراض الْمُخصِّص، فهذا جائز غير ممتنع؛ لأن عمومات القرآن قد تخصص بخبر الواحد.
[والثاني] وقد تعترض إعتراضاً يوجب رفع حكمه رأساً، وهذا مما لا يجوز، ولم يثبت في كتاب الله تعالى ولا سنة(3) رسوله لفظ لا يحتمل التأويل، ويكون خبر فاطمة بنت قيس يوجب رفع حكمه رأساً، فسقط هذا الإعتراض.
على أن عمر بيَّن أنه رد خبرها، لأنه لا يدري، أصدقت، أم كذبت، فلو كان رده له؛ لأنه رافع لحكم الكتاب والسنة رأساً، لم يقل ذلك، فإنه ما يجري(4) هذا المجرى لا يقبل، وإن ورد مَن جهة من يطلق أنه ثقة عدل.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَاحْصُوا الْعِدَّةَ}، ثم قال: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بِيُوتِهنَّ}، وقال أيضاً بعد ذكره سبحانه أحكام العدة: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وَجْدِكُمْ}، فكان الآيتان عامتين في البائنة وغير البائنة في إيجاب السكنى لها.
__________
(1) في (أ): وعلى على سنة.
(2) في (ب): اعترضت على.
(3) في (أ): ولا في سنة.
(4) في (ب): فإنه يجري.(61/13)
قيل له: لو ثبت ما ادعيتم من عموم الآيتين، لوجب أن يكونا مخصوصتين بما رويناه عن فاطمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن عبدالحميد بن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شأنها على ما بيناه، على أن في كل(1) واحدة من الآيتين ما يدل على أنها خاصة في المعتدة من الطلاق الرجعي، ألا ترى أن قال بعد قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بِيُوتِهِنَّ لَعَلَّ اللَّهُ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}، وقد روي في التفسير أن ذلك الأمر هو الرجعة، فدل ذلك على أن الآية فيمن طلقت تطليقة رجعية، على أنه ليس هناك أمر يتعلق بالعدة يَنتَظر حدوثه سوى الرجعة، فوجب(2) أن تكون هي المراد به.
فإن قيل: الرجعة هي فعل المراجع، فكيف يجوز أن يحدثه الله تعالى؟
__________
(1) في (ب): أن كل.
(2) في (أ): فيجب.(61/14)
قيل /204/ له: المراد به أن الله تعالى يحدث ما يدعو إليها من الأسباب الداعية، وأما ما يدل على أن قوله سبحانه: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}، ومعناه حيث سكنتم، و(من) هاهنا صلة، وقد علمنا أن الْمُطَلِّق لا يجوز له مساكنة المطلقة، إلا أن تكون التطليقة رجعية، فأما البائن فلا يجوز له مساكنتها؛ لأنها في حكم الأجانب، ألا ترى أنها لا تستباح إلا بعقد جديد، وإذا ثبت ذلك، بان بأن الآية واردة في المعتدات من الطلاق الرجعي، ويدل على ذلك أنها ممن لم يبق لمطلقها عليها حق الإستمتاع، فوجب أن لا يجب عليه لها السكنى، دليله إذا خرجت من عدتها [ويكشف أن السكنى تعلق بحق استمتاع الزوج، ولأنها ليست كالنفقة، أن المرأة لو أبرأته من السكنى] (1) كان لزوجها أن يطالبها بأن تسكن حيث يسكنها، وليس لها أن تجعل سكناها لغيرها، والنفقة لو أبرأته المرأة منها، لم يكن له أن يطالبها بالإستنفاق من نفقته، وكذلك إذا قبضت نفقتها، فلها أن تهبها من شاءت، فتصرف فيها كيف شاءت، فدل ذلك على أن السكنى يتعلق بها حق الزوج، فإذا انقطعت حقوق الزوج من الإستمتاع عنها، وجب أن يسقط وجوب سكناها.
مسألة: [في نفقة المختلفة]
قال: والمختلعة إن خولعت على النفقة، فليس لها نفقة، ولا سكنى، فإن لم تخالع على النفقة، فلها النفقة دون السكنى. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (ب).
(2) لفظ الأحكام: (والمختلفة فعدتها واجبة وعلى زوجها نفقتها إلا أن يكون زوها اشترط عليها ألا يكون عليه لا نفقة ولا سكنى فإن كان ذلك جرى في الشرط فهو جائز، وقال عن جده السكنى والنفقة على قدر ما يون من مشارطة الزوج) انظر الأحكام 1/425 فليتأمل.(61/15)
أما إن خولعت من غير اشتراط إسقاط النفقة فقد دللنا في المسألة التي تقدمت أن لها النفقة دون السكنى، فلا وجه لإعادته، وأما إذا خالعها عن(1) النفقة فإن النفقة تسقط؛ لأنها قد جعلت عوضاً للطلاق، كما سقط المهر إذا جعل عوضاً للطلاق، لأن كل واحد منهما حق في مال وجب بسبب النكاح، فوجب أن يصح اسقاطه بالمخالعة، وليس يمكن الإعتراض عليه بأن النفقة قد تدخل فيها الجهالة، فلا يصح أن تجعل عوضاً؛ لأن دخول الجهالة في أعواض الطلاق لا يبطلها كما يبطل المهر، وليس يصح أن يقال: إن إبراءها منها لا يصح؛ لأنها لم تجب بعد، ولم تصر المرأة مستحقة لها؛ لأنها تستحقها بعد الطلاق؛ لأن ذلك عندنا ليس بإبراء محض، لأنها لم يجعل العوض عنها، وقد علمنا أنها لو أعطيت نفقة العدة قبل الطلاق، صح ذلك، فلم يمتنع أن يعتاض الطلاق عن نفقة العدة قبل وجوبها.
مسألة: [في نفقة المتوخي عنها]
قال: والمتوفي عنها زوجها تجب نفقتها من جملة الميراث حتى تنقضي عدتها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3).
وذهب أكثر العلماء إلى أن لا نفقة لها، قال أبو العباس الحسني رحمه الله: وروي نحو قولنا عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، وقد روى هناد بن السري، عن الشعبي، عن علي عليه السلام، وعبدالله بن مسعود، أنهما أوجبا النفقة للحامل المتوفى عنها زوجها، وروي نحوه عن شريح.
__________
(1) في (ب): على.
(2) انظر الأحكام 1/439 ـ 440، 491.
(3) انظر المنتخب 142.(61/16)
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، حدثنا محمد بن علي بن شروشان، حدثنا أبو حاتم الرازي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، عن معاوية بن صالح، عن علي بن(1) طلحة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}، قال: كان الرجل إذا مات، وترك امرأته، اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله سبحانه: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفُّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، فبين أن الآية الآولى أوجبت على المتوفى عنها زوجها إعتداد سنة، وأوجب لها النفقة ما دامت في العدة، فلما نسخت المدة، بقي وجوب النفقة على ما كان عليه.
فإن قيل: فقد(2) روي عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {مَتَاعٌ إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}، : نسخ ذلك بآية الميراث.
قيل له: يجوز أن يكون ذلك قاله لرأي رآه، إذ ليس في ظاهر آية الميراث ما يوجب نسخ ما جعل لها من المتاع، وما كان كذلك، لم يلزمنا المصير إليه إلا بحجة.
فإن /205/ قيل: فإذا كان المروي عن علي عليه السلام أنه أوجب النفقة للحامل، فكيف أوجبتموها للحائل مع قولكم: إنه لا يجوز أن يخالف؟
__________
(1) في (أ): عن علي بن أبي طلحة.
(2) في (ب): روي.(61/17)