واختلف أهل العلم في ذلك، فقال أبو حنيفة: لها النفقة والسكنى، وقال الشافعي: لها السكنى، ولا نفقة لها، وذهب(1) الإمامية إلى أنها لانفقة لها ولا(2) سكنى، ونحن نبين أن لها النفقة ولا سكنى لها بقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، فلم يستثن منهن البائن، فاقتضى العموم إيجاب النفقة على أولات الحمل، إلى أن تنقضي عدتهن بوضع الحمل، بائناً كانت، أو غير بائن، فإذا ثبت وجوب النفقة على المطلقة البائن إذا كانت ذات حمل بالآية التي ذكرناها، ولأنه مما لا أحقظ فيه خلافاً بين عامة الفقهاء، وجب أن يكون ذلك حكمها، وإن كانت حائلاً، بعلة أنها معتدة من طلاق، ويمكن أن يقاس بهذه العلة على المطلقة طلاقاً رجعياً [إذ لا خلاف] (3) في أن النفقة واجبة لها.
فإن قيل: في البائن الحبلى وجبت نفقتها لأنها حبلى.
__________
(1) في (ب): ذهب.
(2) في (أ): وأنه لا.
(3) سقط من (أ).(61/8)
قيل له: قد علمنا أن الحِبَل لاتأثير له في إيجاب النفقة؛ لإجماع الكل على إستواء وجوده وعدمه في عدة تطليق الرجعة(1) على أن وجوب النفقة، إما أن يكون حق الحمل، أو حق المرأة، فإن كان حق الحمل، وجب أن ينفق عليه من مال الحمل، إن كان له مال، ولوجب أن لا(2) يراعى فيه كفاية المرأة، فلما روعيت فيه كفايتها، ولم ينفق عليها من مال الحمل، علُم أنها حق للمرأة المعتدة، فوجب أن يستوي فيه(3) الحامل والحائل، وأيضاً إذا ثبت وجوب ألنفقة للزوج لكونها محبوسة على زوجها غير نائزة، وجب أن يلزم للمعتدة البائن لكونها محبوسة عليه من غير نشوز، وليس لهم أن يمتنعوا من تسليم أنها محبوسة على زوجها، وذلك أنه وإن لم يكن في الحال زوجاً، فإنه هو الذي ملك بضعها بالنكاح، وحبسها، إنما هو للحرمة المتعلقة بذلك، فإذا ثبت غرض فيما ذكرناه، لم يَقدح فيه امتناعهم من إجراء الإسم عليه، يكشف ذلك أنها في حال الإعتداد موقوفة لحرمة الزوجية، ممنوعة من التصرف في نفسها كحالها وهي متزوجة، فوجب أن تلزم نفقتها كما لزمت في حال /202/ الزوجية.
فإن قيل: هذا ينتقض بالمختلعة إذا خالعت على النفقة.
قيل له: نحن علَّلنا لإيحاب أصل النفقة، لا أن يعتبر فيها الإبراء، فلا وجه لهذا السؤال.
فإن قيل: فقد روي عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: طلقني زوجي البَتَّة، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السكني والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وهذا نص يعترض قياسكم.
قيل له: قد روي أن زوجها لما طلَّق بعث إليها النفقة، فاستَقلَّتَها، فخاصمت، فيمكن أن يكون قولها: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لي(4) نفقة محمولاً على أن المراد به أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لي نفقة زائدة على ما بعث، وإذا كان هذا هكذا، لم يكن لخصمنا التعلق به.
__________
(1) في (أ): الرجعية.
(2) في (أ): أن يراعي.
(3) في (أ): ناشزة.
(4) في (ب): لها.(61/9)
أخبرنا بذلك أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا روح، حدثنا يحيى بن عبدالله بن بكير، حدثني الليث، عن أبي الزبير المكي، أنه سأل عبدالحميد بن عبدالله بن أبي عمرو بن حفص، عن طلاق جده أبي عمرو فاطمةَ بنت قيس، فقال له عبدالحميد: طلقها البته، ثم خرج إلى اليمن، ووكَّل عياش بن أبي ربيعة، فأرسل إليها ببعض النفقة فسخطتها، فقال لها عياش مالَكِ علينا من نفقة، ولا سكنى، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ليس لك نفقة ولا سكنى، ولكن متاع بالمعروف) (1)، فدل ذلك على أن الذي أراده صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ليس لك نفقة)، هو الزائد على الذي بعث إليها.
وأخبرنا أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا وهب، حدثنا سعد بن أبي بكر، عن أبي بكر بن أبي الجهم، قال: دخلت أنا(2) وأبو سلمة إلى فاطمة بنت قيس فحدَّثَت أن زوجها طلقها طلاقاً بائناً، وأمر أن يرسل إليها بنفقتها خمسة أوساق، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إن زوجي طلقني، ولم يجعل لي السكنى، ولا النفقة. (3) فدل هذان الخبران أن نفقتها(4) كانت قد بُعِثت إليها، وأنها كانت تطلب الزيادة، فمنعها عن طلبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/65 وفيه عن طلاق جده أبي عمر وفاطمة بنت قيس وفيه أيضاً ليس لك نفقة ولا مسكن ولكن متاع بالمعروف اخرجي عنهم.. الخ.
(2) في (أ): أنا وأبو خيثمة.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار، وفيه: فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت، وفيه أيضاً: حدثنا سعيد بدلاً عن سعيد.
(4) في (أ): النفقة.(61/10)
وذكر أبو العباس الحسني ـ رحمه الله ـ في كتاب (الإبانة) أنه روى عن عبدالرحمن بن المهدي، حدثنا سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: أرسل زوجي أبو عمرو بن حفص عياشَ بن أبي ربيعة بطلاقي، فأرسل إليَّ خمسة أصوع من شعير، وخمسة أصوع من تمر، فإن قيل: فإن في الخبر الأول أنه بعث إليها خمسة أوساق، وفي الخبر الثاني بعث إليها خمسة أصوع من شعير وخمسة أصوع من تمر، وهذا ضرب من التعارض.
قيل له: لا يمتنع أن يكون الذي بعث أولاً عشرة آصع(1)، وإنه أكمل خمسة أوسق بعد ذلك، فتارة أخبرت عما حُمل إليها أولاً، وتارة عما حمل إليها ثانياً، فلا يكون في ذلك تعارض.
فإن قيل: لو كان حمل إليها خمسة أوسق(2) ما كانت تستقلها.
قيل له: يجوز أن لا يكون الجميع كان لنفقة عدتها، بل كان بعضها مما(3) لزمه من نفقتها المتقدمة، ويجوز أن يكون امتد زمان أقرآئها، فتطاولت مدة العدة، فاستقلته.
فإن قيل: فلو كان ذلك كذلك، لم ينكر عمر قولها.
قيل له: يجوز أن يكون عمر سمع ظاهر قولها: ولم يعرف ماكان وصل إليها، وأنها نفت الزائد من النفقة، فأنكر ظاهر إطلاقها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لها نفقة.
__________
(1) في (أ): أصواع.
(2) في (أ): أوساق.
(3) في (أ): لما.(61/11)
فأما ما يدل على أنه(1) لا سكنى (2)لها، فهو: ما أخبرنا به أبو بكر المقري، حدثنا الطحاوي، حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، حدثنا سعيد بن /203/ منصور، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، وحصين، وأشعث، وإسماعيل بن أبي خالد، وداود، وسيار، ومجالد، عن الشعبي، قال: دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة، فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها فقالت: طلقني زوجي البتة، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السكنى والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم(3)، وقال مجالد في حديثه، يابنة قيس إنما السكنى والنفقة لمن كانت له الرجعة، فقولها لم يجعل لي سكنى ـ دليل على أن المبتوتة لا سكنى لها. (4)
وكذلك ما رواه مجالد عنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يأبنة قيس إنما السكنى والنفقة لمن كانت له الرجعة)، نص فيما نذهب(5) إليه، وكذلك قول عبدالحميد بن عبدالله بن أبي عمرو بن حفص: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمه بنت قيس: (ليس لك نفقة ولا سكنى، ولكن متاع بالمعروف)، دليل على صحة ما نذهب إليه من أنها لا سكنى لها.
فإن قيل: فإن عمر أنكر هذا الحديث، ومن شرط قبول خبر الواحد أن لا يكون للسلف نكير فيه.
__________
(1) في (أ): أنها.
(2) في (ب): لا سكنى ولا نفقة.
(3) في (أ): في بيت أم مكتوم.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/64.
(5) في (ب): ذهب.(61/12)