هذا وقد يجب المهر من غير تسليم البضع على بعض الوجوه، فتارة يلزم منه الشطر، وتارة /199/ الكل، فكانت النفقة بذلك أولى.
فإن قيل: الناشزة سقطت نفقتها لتعذر وصول الزوج إلى الإستمتاع فكذلك الصغيرة.
قيل له: هذا يفسد بمن سافر عن زوجته، أو أحرمت زوجته بإذنه، فلا يصح التعويل عليه، على أن الناشزة إنما وجب سقوط نفقتها؛ لأنها عصت بالإمتناع، وليس يلزم على ذلك الأمة المزوجة التي لم تسلم إلى زوجها؛ لأن هذا إيجاب الحكم بغير تلك العلة، وهذا شائع غير ممتنع، على أنا لو زدنا في العلة بأنها ممن أوجب العقد تسليم نفسها، لزال هذا الإعتراض بواحدة؛ لأن عقد الأمة لا يوجب تسليم نفسها؛ إذ بقي عليها حق الخدمة.
ويمكن أن تحرر العلة على هذا المعنى أيضاً، فيقال: لَمَّا لم يكن من الصغيرة امتناع بمعصية في عقد أوجب تسليم نفسها، لم يجب أن تسقط نفقتها، قياساً على الحرة البالغة الممكنة(1) من نفسها.
فإن قيل: النفقة جُعلت في مقابلة الإستمتاع، فإذا فقد الإستمتاع، فلا نفقة.
قيل له: ليس ذلك كذلك، بل النفقة جُعلت في مقابلة بذل نفسها، فإذا حصل البذل، وجبت، فأما إذا حبست نفسها على الوجه الذي ذكرنا، فلا خلاف في أنها تكون ناشزة، وأن نفقتها تسقط.
ووجه قولنا: إنها بحسب الإعسار واليسار قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سِعَتِهِ..} الآية، وقوله سبحانه: {وَالَّذِيْنَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}، وقد علمنا أن الغني يكون بالقليل مقتراً، والفقير بالتوسعة مسرفاً، والمقادير المذكورة في هذا الباب محمولة على أنها قدرت على حسب أحوال أقوام وعاداتهم.
فصل [في منع المرأة نفسها طلباً لمهرها]
قال أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى: المروي عن القاسم عليه السلام أنها إن منعت نفسها لاقتضاء مهرها، لم تسقط نفقتها، وبه قال أبو حنيفة.
__________
(1) في (ب): المتمكنة.(61/3)
ووجهه ما استدللنا به من الأثر والآية، وهي أيضاً غير ممتنعة بمعصية في عقد أوجب تسليم نفسها، فوجب أن تجب نفقتها، قياساً على الْمُحرِمة بإذنه، أو المريضة، على أن امتناعها في الحقيقة في حكم امتناع الزوج؛ لأن الزوج يمكنه إزالة الإمتناع بتوفير(1) المهر، فيجري ذلك مجرى ألا تكون منه مطالبة بالكون عنده مع بذلها نفسها، في أن النفقة تجب لها.
مسألة: [في مطالبة الزوج أو وليها بالنفقة]
قال: وللزوجة أن تطالب الزوج بالنفقة إن كانت كبيرة، ولوليها أن يطالب بالنفقة إذا كانت صغيرة.
قد نبه في كتاب النفقة من (المنتخب) (2) على ما ذكرناه في الكبيرة، وفي كتاب النكاح من (المنتخب) (3) على ما ذكرنا في الصغيرة. ويجب أن يكون المراد بولي الصغيرة هاهنا من يتولى عليها في مالها كالأب، أو وصيه، أو الجد، أو الحاكم، أو من يوليه دون من يتجرد لهم ولاية النكاح فقط، كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، وعلى هذا خرَّجه أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى في (النصوص)، أن من قدمنا ذكرهم لهم الولاية في المال، من دون من ذكرناهم ثانياً، ووجهه أن هذه الولاية ولاية تختص المال فوجب أن تكون البالغة أولى بها كما أنها أولى بسائر أموالها وحقوقها المتعلقة بالأموال، إذ ليس لأحد أن يتولاها عليها(4).
وقلنا: إن ولي الصغيرة يطالب عنها لمثل ما ذكرناه؛ لأن له التصرف في مالها وحقوقها المتعلقة بالأموال إذا تحرى نفعها، فكذلك ما ذكرناه، على أنه إذا ثبت استحقاقها للنفقة، فلا خلاف بعد ذلك في أنه للكبيرة أن تطالب بها، وأن لولي الصغيرة أن يطالب عنها كحكمه في سائر حقوقها.
مسألة: [في الزوج يطالَب بالنفقة فيهرب، أو يغيب أو يماطل]
__________
(1) في (أ): بتوفية.
(2) انظر المنتخب 372 ، 373.
(3) انظر المنتخب 127.
(4) في (ب): فيها.(61/4)
قال: وإذا طولب الزوج بالنفقة، وغاب مدة، أو هرب، أو غفل عنها، أو دافع بأي وجه من المدافعة، طولب بعد ذلك بنفقة ما مضى، وكذا القول إن كان الولي هو المطالب عنها. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1). وحقق أبو العباس الحسني رضي الله عنه في (النصوص) أنها كالدين، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزم إلا أن يفرض لها الحاكم، أو يقع التراضي بها. والأصل في لزومها على الأحوال كلها ماقدمنا /200/ ذكره من الآية والخبر؛ لأنهما لم يخصا حالاً من حال، ويدل على ذلك ما أجمعنا عليه أنها تصير لازمة بعد فرض الحاكم، أو حصول التراضي، فكذلك وإن لم يحكم الحاكم، ولم يحصل التراضي، والعلة أنها غير ممتنعة على زوجها على جهة المعصية، فوجب أن تكون نفقتها لازمة لزوجها، كالدَين.
ويبين أن الحكم تعلق بما ذكرناه أن الحاكم لو فرضها، أو حصل التراضي بها، ثم حصل النشوز من جهتها، لم يكن لها نفقة، ومتى أزالت النشوز عاد وجوبها، فبان أن العلة ما ذكرناه،
ويدل على ذلك أنها حق في مال جُعل في مقابلة بذل نفس المرأة، وجعل بدلاً له، فإذا سُلِّم البدل، وجب أن يستحق ما قابله من غير مراعاة حكم أو غيره، دليل سائر الأبدال.
فإن قيل: سبيلها سبيل نفقة ذوي الأرحام في أنها تسقط بالفوات.
قيل له: ليس كذلك؛ لأن نفقتهم لم تُجعل عوضاً عن شيء، كما أن نفقة الزوجة جعلت عوضاً من البدل، ألا ترى أنها لو نشزت، لسقطت نفقتها، ومتى بذلت نفسها، لزمت، معسرة كانت، أو موسرة، فبان أنها لم تلزم على طريق المواصلة والمواساة، كنفقة ذوي الأرحام التي لا يحكم لهم بها إلا مع الإعسار.
فإن قيل: لا يجوز أن تكون النفقة عوضاً من البدل؛ لأن الزوج قد استحق عليها ذلك بالعقد والمهر، ولا يجوز أن تستحق هي بدل المستحق عوضاً ثانياً.
__________
(1) انظر المنتخب 372 ـ 373.(61/5)
قيل له: المستحق بالعقد والمهر هو الوطء فقط، ألا ترى أنها لو نشزت، وكانت تُمكِّن من وطئها أوقات الحاجة إليه، لم يجب لها نفقة، وإن وجب المهر، وإنما تجب النفقة إذا حصل منها البذل، فبان أن البدل مستحق بالعقد مع المهر والنفقة، فالنفقة، إذاً في مقابلة البدل.
مسألة: [في إنفاق ولي الزوجة عليها أثناء مماطلة الزوج]
قال: وإن كان الولي أنفق عليها في المدة التي دافع الزوج فيها بالمعروف، وجب ذلك(1) له على الزوج، وإن كان أسرف في النفقة، رجع منها بمقدار ما يكون بالمعروف، وهو فيما زاد عليها متبرع، لا يرجع به، وكذلك إن كان للمرأة مال، وأنفق عليها الولي، رجع على الزوج بمقدار المعروف من النفقة.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
ووجهه ما قد بيناه من أنها لازمة زوجها، وجارية مجرى الدين، فإذا امتنع من توفيتها، فإنَّ إنفاق الولي عليها، أو انفاقها على نفسها لا يسقط حقها فكذلك قلنا: إن له الرجوع بذلك على الزوج.
وقلنا: إن له الرجوع بمقدار المعروف منها؛ لأن ذلك هو الواجب دون ما زاد عليه، فلم يجز له أن يرجع على الزوج بالزيادة؛ إذ هي غير لازمة له.
مسألة: [في حبس الزوج إذا كان ماطل بالنفقة]
قال: وإن ماطل الزوج، حُبِس لها، ولا تحبس المرأة عن الزوج إن كان موضعهما من الحبس موضعاً مستوراً عن الناس، فإن لم يكن الموضع كذلك، جاز لها أن تحبس.
فهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
ووجه قولنا: إن الزوج إن ماطل حبس لها؛ لأن وجوب النفقة قد ثبت، وجرى مجرى سائر الديون، فقلنا: إن الزوج متى امتنع من توفيتها، حبس كما يحبس إذا امتنع من توفية سائر الديون التي عليه.
__________
(1) فيي (أ): وجب له.
(2) انظر المنتخب 373.
(3) انظر المنتخب 373.(61/6)
وقلنا: إن المرأة لا تحبس عنه إذا كان في الحبس موضع مستور عن الناس، لأنها لو امتنعت من غير عذر كانت ناشزة، والنشوز معصية، وهو أيضاً يسقط ما بعد ذلك من نفقتها، فأما ما وجب من النفقة قبل ذلك، فلا يسقطه النشوز الواقع من بعد، فأما إن لم يكن في الحبس موضع على ما ذكرناه، جاز لها أن تمتنع من حضوره؛ لأنها ممتنعة بحق، كما تمتنع منه إذا كانت محرمة، أو /201/ امتنعت من تسليم نفسها لاستيفاء مهرها، ولم يجب أن تسقط نفقتها فيما بعد أيضاً، لأنها ليست ناشزة، بل هي ممتنعة بحق على ما مضى القول فيه، وفي نظائره من المسائل.
مسألة: [في نفقة المطلقة ومدتها]
قال: وإذا طلق الرجل زوجته وجب عليه نفقتها ما دامت في عدته تطاول زمان العدة، أم تقاصر، فإن كانت التطليقة رجعية وجب لها السكنى مع النفقة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2).
والأصل في إيجاب السكنى والنفقة للمعتدة قول الله تعالى بعد ذكر(3) الطلاق، ووصف أحوال العدة: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ..} الآية، على أن الجملة التي ذكرنا مما لا خلاف فيه، والمطلقة الرجعية لم يختلف المسلمون في أن لها السكنى والنفقة، وإنما الخلاف في غير ذلك مما نبين تفاصيله بعون الله تعالى، ولا خلاف أيضاً أن طويل المدة في العدة كقصيرها.
مسألة: [في نفقة البائنة]
قال: وإن كانت التطليقة بائنة، وجبت النفقة دون السكنى، وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4) و(المنتخب) (5).
__________
(1) انظر الأحكام 1/492.
(2) انظر المنتخب 146.
(3) في (أ): ذكره.
(4) انظر الأحكام 1/492.
(5) انظر المنتخب 146.(61/7)