فأما ما ذكرناه من أنه إذا سكت حين يولد على فراشه، لم يكن له نفيه بعد، فهو قول كثير من العلماء، وقال أبو يوسف، ومحمد: إن له أن ينفيه ما بينه وبين أربعين يوماً؛ لأنه أكثر مدة النفاس، والنفاس حال الولادة، وذلك لا معنى له، لأن حال الولادة حال الوضع فقط، فأما النفاس فحكم يتعلق به، ولا يمتنع في الأحكام المتعلقة أن يتراخى ويتقدم، والإعتبار به لا وجه له، وأصل ما ذهبنا إليه ما لا خلاف فيه من أنه لو سكت زماناً طويلاً بعد الولادة والعلم بها، كالسنة ونحوها، لم يكن له نفيه بعد ذلك، فكذلك إذا مضت عليه ساعة، والمعنى أنه مضى عليه من الزمان ما يمكنه نفيه فيه فلم يَنفِ، وأيضاً لا خلاف أن حق النفي يبطل بالسكوت، فوجب أن يستوي فيه قليل المدة وكثيرها، دليله حق الشفعة.
فإن قيل: فهذا يعترضه خيار الرد بالعيب، وخيار الأمة إذا أعتقت تحت زوج، وخيار المولى في النكاح الموقوف، فإنكم لم تجعلوا شيئاً من ذلك على الفور.
قيل له: شيء من تلك الحقوق عندنا لا تبطل بالسكوت بل تبطل بالرضى، ولا بد فيه من التعلق بنطق، أو ما يقوم مقامه مما يدل على الرضى، فلم يجب أن يكون بطلانه على الفور، وليس كذلك ما اختلفنا فيه من حق النفي لأنه يبطل بالسكوت، والكف عن طلبه، فوجب أن يكون حكمه حكم الشفعة.
مسألة: [في لعان المرأة في عدتها]
قال: وللرجل أن يلاعن المرأة ما دامت في عدته. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1) ونص فيه على أنه لا فصل بين أن تكون في عدته من طلاق رجعي، أو بائن.
__________
(1) انظر المنتخب 164.(60/24)


ووجهه ـ ما لا خلاف فيه أنه يلاعنها ما دامت في عدته من طلاق رجعي، فكذلك ما دامت في عدة من طلاق بائن، والعلة أنها في عدة من نكاح، أو نفاس على من لم يطلق، بعلة أنها ممنوعة من التزويج لحرمة الزوجية التي انعقدت بينهما، وليس لهم أن يعترضوا ذلك بأن يقولوا: العلة بقاء الزوجية بينهما؛ لأن ذلك لا يمنع من قياسنا الذي اعتمدناه، على أن اللعان موضوعه لنفي الولد، ودفع العار، وكل ذلك حاصل ما دامت موقوفة عليه بالعدة، ألا ترى أن حكم فراشها منه ثابت، فوجب أن يكون حكمها في باب اللعان حكم الزوجة، يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ادرأوا الحدود ما استطعتم)، فلو لم يوجب بينهما اللعان، لأوجبنا إقامة الحد.
فإن قيل: واللعان ايضاً حد؛ لأنه قائم مقامه.
قيل له: لسنا نسلم ذلك، بل اللعان قائم مقام البينة، وهو يدرأ الحد؛ لأن الرجل عندنا لو أبى اللعان، حُدَّ، وقد قال الله تعالى: {وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ}، وبيَّن أن لعانها يدرأ عنها العذاب الذي هو الحد، فصح أن اللعان ليس بحد، فيسقط الإعتراض به.
فإن قيل: فاللعان عندكم يوجب التفريق، فلا معنى له بعد مفارقة الزوج لها.
قيل له: قد مضى في كتابنا أن الفرقة الواقعة باللعان فصح، والفسوخ يجوز أن تعرض في العدة، وإنما الممتنع عندنا في عدة الطلاق هو فرقة الطلاق، فلا سؤال علينا في هذه.
فإن قيل: ظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}، يحجكم.
قيل له: هذا مخصوص بالأدلة التي اعتمدناها.
مسألة: [في موت القاذف قبل اللعان]
قال: وإذا قذف الرجل زوجته، ونفى ولدها، ثم مات قبل أن يلاعنها، لم يَنتفِ الولد.(60/25)


وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، وهو مما لا خلاف فيه، ولأن النسب ثابت لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش [وللعاهر الحجر] (2))، وإنما /198/ ينتفي بنفي الحاكم له بعد اللعان الواقع، فإذا مات قبل أن يقع، فلا وجه لنفيه، فوجب أن يكون ثابتاً.
__________
(1) انظر الأحكام 2/269 ولكنه قال: (ورثها وورثته؛ لأنه لم ينفذ لعانها وهي على نكاحهما) ولم يذكر انتفاء الولد.
(2) ما بين المعكوفين سقط من (ب).(60/26)


كتاب النفقات
باب القول في نفقة الزوجات
[مسألة: في صفة الزوة التي يجب الإنفاق عليها، خرج مقدار الصدقة]
يجب للزوجة على زوجها النفقة على قدر إيساره وإعساره سواء كانت الزوجة صغيرة أو كبيرة، مدخولاً بها أو غير مدخولاً بها، يصلح مجامعه مثلها أو لا يصلح، مالم تحبس نفسها، عنه مع التمكن من تسليمها، فإن حبست نفسها فلا نفقة لها.
[جميع ذلك منصوص عليه في كتاب الطلاق من (الأحكام) (1)].
ما ذكرناه من وجوب نفقة المرأة على زوجها على قدر إيساره وإعساره، وإن كانت غير مدخول بها، مالم تحبس نفسها، عنه، وإن حبست نفسها فلا نفقة لها ـ منصوص عليه في كتاب الطلاق من (الأحكام) (2) وما ذكرناه من وجوب نفقة الصغيرة التي لا تصلح للجماع على زوجها بنصوص عليه في كتاب النكاح من (المنتخب) (3).
والأصل في إيجاب نفقة المرأة على زوجها قول الله سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ..} الآية، وقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادهن..} الآية.
وروى أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى، حدثنا محمد بن الحسين بن علي العلوي، حدثنا أبي، حدثنا زيد بن الحسين، عن ابن أبي أويس، عن ابن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوم النحر، بمنى، في حجة الوداع، فقال فيها: (استوصوا بالنساء خيراً)، إلى أن قال: (ولهن عليكم من الحق نفقتهن، وكسوتهن بالمعروف)، على أنه لا خلاف فيه بين العلماء.
فأما ما ذهبنا إليه من أن المدخول بها، وغير المدخول بها، في ذلك سواء، فبه قال أبو حنيفة.
__________
(1) ما بين المعكوفين زيادة في (ب) ينقل إلى الهامش، ولم ينص على جميعه في الأحكام.
(2) انظر الأحكام 1/494 وهو من كتاب النفقات.
(3) انظر المنتخب 127.(61/1)


ويدل على ذلك ما ذكرناه من الكتاب والسنة، على أنه لا خلاف أن المدخول بها، إذا لم تمنع نفسها من زوجها، لزمته نفقتها، فكذلك التي لم يدخل بها، والمعنى أنها غير ممتنعة على زوجها، وتبيين صحة هذه العلة أنها لو نشزت من زوجها حتى صارت ممتنعة على زوجها، لم يلزم لها نفقة(1).
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إن نفقتها لزمت لتسليمها نفسا؟
قيل له: قد علمنا لو سلمت نفسها، ثم امتنعت، أسقطت نفقتها، فبان أن وجوب النفقة تعلق بأن لا يكون من قِبَلها امتناع على زوجها، وإذا ثبت ذلك بان أنه لا فرق بين أن يكون التسليم حصل، أو لم يحصل.
فأما ماذهبنا إليه من أنها وإن كانت صغيرة لا تصلح للمجامعة، فإن لها النفقة، ففيه خلاف بينا وبين أبي حنيفة.
ويدل على ما ذهبنا إليه ما قدمنا ذكره من الكتاب والسنة [في الكبيرة] (2)، وكذلك الصغيرة التي ذكرنا(3)، يدل على ذلك أنها غير ممتنعة على زوجها، ويمكن أن يقاس بهذه العلة على من مرضت مرضاً لا يستطاع معه جماعها، أو أحرمت بإذن زوجها، في أن نفقتها لا تسقط.
فإن قيل: المرض عارض، وكذلك الإحرام، فلا يجب أن يكون حكمها حكم الصغيرة.
قيل له: قد علمنا أن النشوز يكون عارضاً، وإن أوجب سقوط النفقة، فدل ذلك على أن ما يوجب سقوط النفقة، لا يؤثر فيه كونه عارضاً، أو غير عارض، فلو كان تعذر الوطء يوجب سقوط النفقة لاستوى كونه عارضاً، أو غير عارض، ويدل على ذلك أيضاً ما أجمعنا عليه من أن الصِغَر لا يُسقط إستحقاق المهر، فوجب أن لا يسقط استحقاق النفقة، والعلة أن كل واحد منهما حق في مال يجب للمرأة على زوجها لأمور تتعلق بالزوجية، يبين ذلك ويوضحه، أن النفقة ليست بدلاً للبضع كالمهر، فلا يجب أن يَقِفَ وجوبها على تسليم البضع، ألا ترى أنها لو وُطئت، ثم نشزت، لاستحقت المهر، ولم تستحق النفقة.
__________
(1) في (أ): نفقتها.
(2) سقط من (أ).
(3) في (أ): ذكرناها.(61/2)

10 / 149
ع
En
A+
A-