الكتاب : شرح التجريد

ووجهه أن الظهار يصح تعليقه بالوقت؛ بدلالة حديث سلمة بن صخر أنه كان ظاهر من امرأته حتى ينسلخ شهر رمضان، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبو الخبر إلى آخر الحديث، فلما لم يقل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تعليقه بالوقت لا يصح، كان مقاراً له على ما أخبره به من تعليقه بالوقت، وإذا ثبت ذلك، صح تعليقه بالوقت، ووجب أن يصح تعليقه بالشرط كالطلاق والعتاق والإيمان؛ لأن ما جاز تعليقه بالوقت جاز تعليقه بالشرط، ومالم يجز تعليقه بالوقت، لم يجز تعليقه بالشرط، كالنكاح، والبيع؛ لأن الوقت جارٍ مجرى الشرط، وليس يلزم عليه الإجارة؛ لأنها يجب تعليقها بالوقت، ولا يجوز إلا كذلك، ومرادنا بالصحة هو أنه يجوز أن يُعلَّق بالوقت، وأن لا يعلق، فإذا صح ما بيناه من دخول الشرط في الظهار، وجب أن يقع به الحنثِ كما يقع به الطلاق، والعتاق، والأيمان؛ لأن معنى وقوع الحنث في الطلاق والعتاق ليس أكثر من حصول الشرط الذي عُلِّقا عليه، فكذلك الظهار.
مسألة: [في الظهار قبل النكاح]
قال: ولو أن رجلاً قال: إن تزوجت امرأة ـ بعينها، أو لا يعينها ـ فهي عليَّ كظهر أمي، ثم تزوج بها، لم يقع الظهار، إذ لا ظهار قبل النكاح. وهذا منصوص عليه في /178/ (الأحكام) (1) وبه قال الشافعي، قال أبو حنيفه: يكون مظاهراً إذا تزوج بها.
ووجه ذلك ما قدمناه في منع الطلاق قبل النكاح، يكشف ذلك ما أجمعنا عليه نحن وأبو حنيفة من أنه لا ظهار للمشرك، لَمَّا لم يوقع قوله تحريماً ترفعه الكفارة، فوجب أن لا يكون قول الرجل للأجنبية: أنت عليَّ كظهر أمي إن تزوجتك ظهاراً، لأنه قول لا يليه تحريم ترفعه الكفارة، على أنه إذا ثبت بالظواهر التي ذكرناها أنه لا طلاق قبل النكاح، فلم يفصل أحد بينه وبين الظهار، فوجب أن لا يكون ظهاراً قبل النكاح.
مسألة: [في الظهار من أكثر من زوجة]
__________
(1) انظر الأحكام 1/463.(58/19)


قال: ولو أن رجلاً عنده نساء فظاهر منهن، كفَّر لكل واحدة منهن كفارة، فإن لم يطق العتق عن كلهن، أعتق(1) عن بعضهن، وصام عن بعضهن(2)، فإن لم يطق الصيام عن كلهن، صام عن بعضهن، وأطعم عن بعضهن(3)، وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (4).
أما ما ذكرناه من أنه إذا ظاهر منهن، كفر لكل واحدة منهن كفارة فهو قول زيد بن علي عليهما السلام وبه قال أبو حنيفة، وقول الشافعي: إن كان ظاهر من كل واحدة منهن ظهاراً مفرداً، فأما إن كان ظاهر من كل منهن بكلمة واحدة، فذكر ابن أبي هريرة عنه قولين ـ أحدهما: أن كفارة واحدة تجزي، والآخر: أن عليه لكل واحدة منهن كفارة.
والأصل في ما ذهبنا إليه أن الظهار يوجب تحريم الوطء، فإذا ظاهر منهن، فقد حرم وطء كل واحدة منهن، [وذلك التحريم لا يرتفع إلا بالكفارة، فوجب أن لا يحل له وطء واحدة منهن] حتى يكفر لها كفارة توجب رفع التحريم، ألا ترى أنه إذا طلق عدة من نسائه، لم يرتفع التحريم الواقع إلا بأن يراجع كل واحدة منهن، فكذلك التحريم الواقع بالظهار؛ لأن لكل واحدة منهن تحريماً لا يعم، كالتحريم الذي يحصل بإحرام الرجل وصيامه، على أن الأصول تشهد لذلك؛ لأن كل امرأة حرم وطؤها لأمر يختصها لا يرتفع ذلك التحريم إلا بأمر يختصها، على أن الشافعي لا يخالف فيمن ظاهر من كل واحدة منهن ظهاراً منفرداً أن عليه لكل واحدة منهن كفارة منفردة، فكذلك إذا ظاهر منهن بكلمة واحدة، والمعنى أنه مظاهر منهن.
__________
(1) في (أ): عتق عن بعض.
(2) في (أ): بعض.
(3) في (أ): بعض.
(4) انظر الأحكام 1/463.(58/20)


وقلنا إنه إن لم يطق العتق عن كلهن، أعتق عن بعضهن، وصام عن بعضهن، وكذلك الإطعام؛ لأن الله تعالى أوجب التكفير بالعتق، وأجاز العدول عنه لمن لم يجد إلى الصيام سبيلاً، وأجاز العدول عن الصيام لمن لم يستطع إلى الإطعام سبيلاً، وإذا(1) أعتق عن واحدة، ولم يجد رقبة أخرى، جاز له العدول إلى الصيام، كما لو لم يجد الرقبة الأولى، كان له العدول إلى الصيام، وكذلك إذاصام عن واحدة، ثم لم يستطع، جاز له العدول إلى الإطعام.
مسألة: [في تكرار الظهار]
قال: ولو أن رجلاً ظاهر عن امرأته مرات كثيرة، أجزته عن جميعها كفارة واحدة، إن لم يكن كفَّر بينهن، فإن كان ظاهر، ثم كفر، ثم ظاهر، وجب عليه كفارة بعد كفارة عن كل ظهار، قل عدده، أو كثر. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، قال أبو حنيفة عليه لكل ظهار كفارة إلا أن يكون نوى بالثاني الأول، وهذا هو القول الجديد للشافعي، وقوله القديم مثل قولنا، وقال زيد بن علي عليهما السلام: إن كان قال ذلك في مجلس واحد، ففيه كفارة، وإن قاله في مجالس شتى، فلكل ما قاله في مجلس كفارة.
ووجه ما ذهبنا إليه أنه لا خلاف في أنه لا فصل بين أن يقول الرجل لزوجته أنت طالق، وبين أن يقول أنت طالق، أنت طالق في أن الرجعة الواحدة تكفي لرفع ما حصل من التحريم، فوجب أن لا يكون فصل بين قوله أنت عليَّ كظهر أمي، وبين أن يقع ذلك مكرراً، في أن الكفارة الواحدة تكفي في رفع ما وقع من التحريم، والعلة أنه لفظ له مدخل في تحريم الوطء، فوجب أن يكون تكريره لايوجب تكرير ما يرفع التحريم، ويدل على ذلك أيضاً أنهم لا يختلفون في أن من كرر الظهار، وأراد بالثاني /179/ والثالث الأولَ، فليس عليه إلا كفارة واحدة، فكذلك إن نوى ظهاراً بعد ظهار،
__________
(1) في (أ): فإذا.
(2) انظر الأحكام 1/463 ـ 464.(58/21)


والمعنى أنه كرر لفظ الظهار من غير إن كان كفر ما تقدم، فوجب أن تجزئه كفارة واحدة، يؤكد ما ذكرناه أنا وجدنا في الأصول كل لفظة ترفع حكماً، فلا تأثير لتكريرها ما لم يكن إرتفاع حكم اللفظة الأولى، كلفظ البيع، والهبة، والوقف، والإجارة، والنكاح، والطلاق، والعتاق، فإذا ثبت ذلك، وجب ألا يكون لتكرير الظهار من بقاء حكم اللفظ الأول منه تأثير، وإذا لم يكن له تأثير، لم يجب له الكفارة؛ لأنه يكون كظهار الصبي والمجنون والمشرك، ويشهد لقياسنا أيضاً الإحداث، ألا ترى أن الحدث لما منع من الصلاة إلا بعد التطهر، كان الحدث الواحد كالأحداث الكثيرة في أن الطهارة الواحدة ترفع أحكامها، وكذلك الإجتناب لما كان مانعاً من الصلاة إلا بعد الإغتسال، كان لا فصل بين أن يحصل مرة أو مرات، كذلك حصول الحيض، والجنابة، على أن قياسنا ينقل حكمها بالكفارة الواحدة عما كانت عليه من تحريم وطئها، فكان أولى، على أن قياسنا يستند إلى ظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}، لأنه يوجب كفارة واحدة، ولم يستثن من كرر القول ممن أفرده، وكذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أمر أوس بن الصامت، وسلمة بن صخر، بالكفارة لم يأمر إلا بكفارة واحدة من غير أن يستعلم منهما التكرار للظهار أم لا، فكل ذلك يوضح صحة ما ذهبنا إليه.
فأما إذا ظاهر منها، ثم كفر، ثم ظاهر، فلا خلاف أن عليه كفارة أخرى، ولأنه لما كفر إرتفع التحريم الأول، فأوجب القول الثاني تحريماً ثانياً لا يرتفع إلا بالكفارة، وكذلك إن تكرر، ألا ترى أنه إذ طلق ثم راجع، ثم طلق، لم يرتفع حكم الطلاق الثاني إلا برجعة ثانية، وكذلك من باع شيئاً، ثم ملكه، ثم باعه ثانياً، افتقر إلى ما يعيده في ملكه ثانياً، وعلى هذا سائر الأصول.
مسألة: [في عتق المظاهر لمدبره كفارة له](58/22)


قال: ولا بأس أن يعتق الرجل مدبرة في كفارة الظهار. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
ووجهه أن المدبر عبد عَقْد رقه باقٍ. كما كان، وإن منعنا بيعه على بعض الوجوه، ألا ترى أنا نجيز بيعه في الدَين ولغيره من الضرورات، فإذا كان ذلك كذلك، جرى عتقه مجرى عتق سائر الأرقاء في أنه يجب أن يكون مجزئاً في الكفارة.
مسألة: [في ظهار غير المسلم]
قال: ولو أن كافراً ظاهر من امرأته، لم تلزمه الكفارة تخريجاً، وهذا مما دل كلامه عليه في (الأحكام)، وهكذا خرجه أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى في (النصوص)، وبه قال أبو حنيفة، قال الشافعي: يصح ظهاره.
ووجهه ما ذهبنا إليه أن الكفارة لا تصح من المشرك؛ لأن من شرط أدائها الإيمان، فإذا ثبت ذلك، وجب أن يكون قوله لزوجته أنت عليًّ كظهر أمي لا يوجب تحريماً ترفعه الكفارة، فوجب ألا يكون ذلك ظهاراً، ولا تلزمه الكفارة، دليله لو قال لأجنبية، أو لأمته، ألا ترى أن ذلك لما لم يوقع تحريماً ترفعه الكفارة لم يكن ظهاراً، وإذا قاله المسلم لزوجته، ووقع به تحريم ترفعه الكفارة، كان ظهاراً، على أن الأصل ألاَّ ظهار، وأن الكفارة غير واجبة، وأن الوطء غير محرم، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}، فجعل الخطاب لنا دون المشركين، على أن قوله بعد ذلك: {مَا هُنَّ أُمُّهَاتِهِمْ}، قد علمنا أن المشرك والمسلم فيه سواء، فلم يبق لتخصيصنا بقوله تعالى: {الَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ}، فائدة إلا تخصيصنا بحكمه.
__________
(1) انظر الأحكام 2/177.(58/23)

1 / 149
ع
En
A+
A-