ومما يدل على ذلك قياساً ما أجمعنا عليه من أن الآكل متعمداً يفسد صومه، فكذلك الآكل ناسياً، والمعنى أنه حصل آكلاً(1) في نهار رمضان، أو في نهار صومه، ويقاس على من أكل بعد طلوع الفجر، أو قبل غروب الشمس بهذه العلة، ولا يمكنهم أن يقولوا أن العلة فيما ذكرتم أنه قصد [إلى] (2) الأكل مع ذكره للصوم، وذلك أن الحكم إنما تعلق بالأكل، بدلالة أنه لو قصد إلى الأكل مع ذكره للصوم، ثم لم يأكل، لم يفسد صومه، وإنما يفسد إذا حصل الأكل، فعلمنا أن الحكم ـ الذي هو فساد الصوم ـ وجد بوجود الأكل، وعدم بعدمه، وأصول العبادات تشهد لقياسنا؛ إذ لاخلاف أن الجماع لما كان عمده مفسداً للحج، كان خطأه كذلك، وكذلك الوقوف لما كان تركه عمداً يفسد الحج، كان خطأه كذلك، وكذلك القول في الإحرام، وفي الطهارة.
ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن الكلام سهوه وعمده سيان في إفساد الصلاة، وـ أيضاً ـ قد ثبت أن الإنسان مأمور بالإمساك عن الأكل في جميع أجزاء النهار، كما أنه مأمور بإتيان عدد الركعات في الصلاة، فإذا ترك الإمساك في بعض النهار، فسد صومه، كما أنه إذا ترك بعض الركعات، فسدت صلاته، والمعنى أنه ترك بعض عبادة، فساد بعضها فساد كلها، لو تركها عامداً، بطلت تلك العبادة، فوجب أن يستوي فيه السهو والعمد.
فإن قاسوه على من دخل جوفَه ذبابة، أو غبار؛ بعلة أنه غير قاصد إلى إبطال صومه، كان ذلك منتقضاً بمن أكل بعد طلوع الفجر وعنده أن الفجر لم يطلع، أو قبل غروب الشمس، وعنده أن الشمس قد غربت.
فإن قيل: نزيد في العلة بأن نقول وهو غير منسوب إلى التقصير.
__________
(1) ـ في (ب): آكلاً ناسياً.
(2) ـ سقط من (أ).(38/3)
قيل له: هذا لا يعصم من النقض؛ لأن من أداه اجتهاده إلى أن الفجر لم يطلع، وأكل، لم يكن منسوباً إلى التقصير، غير أن من أكل ناسياً، لا يعرى من ضرب من التقصير، وإن كان معفواً؛ لأن الاحتراز من النسيان ليس بالمستحيل، إذا أخذ الإنسان به نفسه، واستمر على التذكر، وهو ـ أيضاً ـ منتقض بالمكرَه، إذا أكل، وكذلك إن قاسوه على المحتلم بعلتهم، كان الكلام فيه على نحو مامضى، ويقال العلة في أن المحتلم، ومن دخل في حلقه ذباب، أو غبار، لم يفسد صومه؛ لأنه حصل من غير اختيار له، أو لسببه، ويكشف صحة هذه العلة أنه لو حصل مع الاختيار، أفسد صومه، على أن قياسهم لو استنتب(1) لكانت قياساتنا أولى بشهادة الأصول التي ذكرناها، ولأنها تتضمن الاحتياط، والإيجاب.
مسألة: [في حكم الكفارة على المفطر عامداً]
فأما ما روي من وجوب العتق، وغيره، على المتعمد لذلك، فهو استحباب، والتوبة مجزئة له.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
ونص ـ أيضاً ـ في (المنتخب) (3) على أن الكفارة غير واجبة، وأن الواجب هو القضاء، والتوبة.
والشافعي /127/ يوافقنا في الآكل متعمداً، وفي الوطء دون الفرجين، ويخالفنا في المجامع.
وأبو حنيفة يخالفنا في المجامع في الفرجين، وفي أكل ما يصلح به الجسم، ويغتذي به، ويوافق في الوطء ما دون الفرجين، وفيمن بلع حصاة، أو نحوها.
ومالك يخالفنا في جميع ذلك، وهو مذهب الإمامية.
وأوجب القاسم عليه السلام الكفارة في المجامع خاصة.
وقول الناصر عليه السلام مثل قول يحيى عليه السلام، وهو قول ابن علية، وابن المسيب، وابن جبير، والنخعي. والأصل فيه براءة الذمة، والكفارات طريقها الشرع، ولم يرد الشرع بوجوبها على ما نبينه، ويدل على ذلك ما:
__________
(1) ـ في (أ) هكذا.
(2) ـ انظر الأحكام 243، 251، 252.
(3) ـ انظر المنتخب 91 وهو بلفظ قريب.(38/4)
أخبرنا به أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن محمد بن عجلان، عن المطلب بن أبي وداعة، عن ابن المسيب، قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: إني أفطرت يوماً من رمضان. فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( تصدق، واستغفر، وصم يوماً مكانه )) (1). فدل ذلك على أن الواجب فيه هو القضاء، والاستغفار.
فإن قيل: ليس في الخبر أنه أفطر متعمداً.
قيل له: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( استغفر ))، يدل على أنه كان متعمداً؛ لأن الاستغفار لا يجب إلا من العمد، فأما الخطأ والسهو، فيكفي فيه القضاء بالإجماع.
فإن قيل: فقد أمره بالصدقة، وأنتم لا توجبونها.
قيل له: الخبر يقتضي وجوب ما يسمى صدقة من قليل أو كثير، وقد أجمع الجميع أن ذلك غير واجب، فوجب أن يكون استحباباً، وهذا مثل ما روي أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه، إني وجدت امرأة، ففعلت بها كل شيء إلا أني لم أجامعها. فقال له: (( توضأ، وصل.. )) إلى آخر الحديث، فلم تكن الصلاة من موجَب ما فعل، وإنما كان حثاً على الخير والطاعة.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في إيجاب الكفارة أخبار كثيرة منها:
حديث أبي هريرة أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً. فقال: لا أجد، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعرق من(2) تمر فقال: (( خذ هذا، فتصدق به )). فقال: يا رسول اللّه، إني لا أجد أحداً أحوج مني إليه. فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى بدت أنيابه، فقال: (( كُلْهُ )).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/340.
(2) ـ في (أ): فيه.(38/5)
وروي ـ أيضاً ـ عن أبي هريرة أنه قال: بينا نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول اللّه، هلكت؟ فقال: ((ويلك ما لك ))؟. قال: وقعت على أهلي، وأنا صائم في رمضان. فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( هل تجد رقبة تعتقها ))؟ قال: لا. قال(1): (( فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ))؟ قال: لا. قال: (( فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً ))؟ قال: لا. قال: فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى أتى بعرق فيه تمر فقال: ((خذ هذا، فتصدق به)). فقال: ما بين لابتيها أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم قال: ((أطعمه أهلك )).
وروي عن مجاهد أنه قال: أَمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الذي أفطر يوماً من رمضان بمثل كفارة الظهار.
قيل له: الكلام في هذه الأخبار من ثلاثة أوجه: أحدها: أن /128/ الأخبار الواردة في هذا الباب تتعارض، وإذا تعارضت، سقطت، وسقط الوجوب المثبَت بها.
والثاني: أنها تقتضي الاستحباب، دون الإيجاب، والوجه الأول ـ أيضاً ـ يفضي إلى هذا الوجه الثاني.
الثالث: أن ذلك حكم المظاهِر، وأن الرجل المأمور بالكفارة كان مظاهراً. ونبين التعارض الذي ذكرناه [في الوجه الول] بوجهين:
أحدهما: أن بعض الأخبار يقتضي التخيير، وبعضها يقتضي الترتيب، وهما متنافيان على ما نبينه:ـ
__________
(1) ـ في في (أ): فقال.(38/6)
أخبرنا(1) أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يونس:، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رجلاً أفطر في رمضان، في زمن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فأمره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يُكَفِّر بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً. فقال: لا أجد، فأُتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعرق فيه تمر، فقال: (( خذ هذا، فتصدق به )) (2). فقال: يارسول اللّه، إني لا أجد أحداً أحوج إليه مني، فضحك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: (( كُلَّه )). فهذا الخبر قد جعل للمفطر التخيير.
أخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الحديدي، قال: أخبرنا أبو زرعة الرازي، قال: حدثنا ابن أبي بكير، قال: حدثنا مالك، عن ابن شهاب.. الحديث إلى قوله: (( بدت أنيابه )).
__________
(1) ـ في (ب): وأخبرنا.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/60.(38/7)