قيل له: إن صح ذلك، لم يعترض ما قلناه، لأن الاسم لا يمتنع أن يوضع في أصل اللغة لأمر، ثُمَّ ينقله العرف أو الشرع أو هما جميعاً فيكون استعماله إذا ورد في خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في المنقول إليه أولى، ويكون قد صار حقيقة فيه، وجرى فيما وضع له في الأصل مجرى المجاز، نحو قولهم دأبه إنها كانت اسماً لكل ما دب، ثُمَّ صار من جهة العرف اسماً للبهيمة المخصوصة، وكذلك الصلاة كانت في الأصل اسماً للدعاء، وحقيقة فيه، ثُمَّ نقلها الشرع فجعلها اسماً للعبادة المخصوصة، وحقيقة فيها، وحقيقة الغائط كان اسماً لما /22/ انخفض من الأرض، ثُمَّ صار من جهة العرف والشرع اسماً لقضاء الحاجة المخصوصة، وصار حقيقة فيه، وصار استعماله فيما كان وضع له في الأصل جار مجرى المجاز، وكذا قولنا: نكاح، وإن صح فيه ما ذكروا فقد غلب العرف والشرع عليه وجعلاه اسماً للعقد وحقيقة فيه، ويقال لهم: لا خلاف بين الأمة أن تحريم من عقد عليها الأب على ابنه قد عقل من قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فثبت بالاجماع أن العقد مرادٌ حقيقةً كان أو مجازاً، ومذهب من يخالفنا في هذه المسألة أنَّه لا يجوز أن يراد المعنيان المختلفان بعبارة واحدة، فلا يصح له ادعاء أن الوطء مراد به، فسقط تعلقهم به.
فإن قيل: فأنتم أيضاً لا تنكرون أن تحريم من وطء الأب بملك اليمين على ابنه مراداً بالآية، فيرجع عليكم ما اعترضتم به علينا.(51/36)


قيل له: لم نسلم لكم ما ادعيتموه، ولم يمكنكم الاعتصام بالاجماع؛ لأن الذي ذكرتموه غير معلوم، وما ذكرناه معلوم؛ إذ لا خلاف أن الآية لما [أنزلت](1) نزلت للمنع من العقد على التي كان الآباء عقدوا عليها، وذلك مشهور في الأخبار والروايات، على أنا لو سلمنا ذلك، لم يلزمنا ما لزمكم؛ لأنا(2) نُجَوِّز أن يراد بالعبارة الواحدة معنيان مختلفان، فيسقط هذا السؤال.
فإن قيل: فقد روي (من نظر إلى فرج امرأة، لم تحل له أمها ولا ابنتها).
قيل له: هو محمول على من نظر على وجه يحل، بالأدلة التي قدمنا(3) على أن الخبر قد قيل: إنَّه ضعيف، ومما يدل على ذلك أنَّه وطء لا يوجب تحريم الجمع، فوجب أن لا يوجب التحريم المستدام، دليله وطء الميتة والذكور، أو يقال: هو وطء يوجب العقوبة الكاملة، فوجب أن لا يقتضي التحريم، دليله وطء الذكور، أو يقال: هو وطء لم يتقدمه أمر يحقق(4) التملك أو تحليله، دليله وطء الميتة والذكور، ولا خلاف أنَّه إذا زنى بامرأة، لم يحرم عليه نكاح أختها في الحال، فوجب أن لا يحرم نكاح أمها وابنتها، والمعنى أنَّه زنا، فوجب أن لا يحرم الحلال من العقود.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): لا.
(3) في (أ): قدمناها.
(4) في (ب): تحقيقه.(51/37)


ويؤكد ما ذهبنا إليه أن الأصول تشهد لنا من حيث تفرق بين الوطء الحلال وبين الزنا في عامة الأحكام كوجوب العدة، ولزوم النسب، والنفقة، وسقوط الحدود، وزوال المأثم، وأيضاً نحن رددنا الوطء الحرام إلى الوطء الحرام، وهم ردوه إلى الوطء الحلال، فكان قياسنا أولى؛ لأن الحرام بالحرام أشبه منه بالحلال، وما ذكرناه من أن من وطيء امرأة بشبهة لم تحرم عليه أمها ولا ابنتها، ولا عليها أبوه. ولا ابنه، وقد نص في (الأحكام)(1) أن رجلاً وابنه لو تزوجا امرأتين، ثُمَّ أدخلت زوجة كل واحد منهما على صاحبه(2) على سبيل الغلط، فوطيء كل واحد منهما من أدخلت إليه، لم تحرم كل واحدة منهما على زوجها بهذا الوطء الواقع على سبيل الغلط.
ونص أيضاً عليه في (المنتخب)(3) ونص أيضاً في (الأحكام) (4) [على أن رجلين] (5) لو تزوج أحدهما امرأة والآخر ابنتها ثُمَّ أدخلت زوجة كل واحد منهما على زوج صاحبتها على سبيل الغلط لم تحرم واحدة منهما على زوجها بالوطء الواقع على سبيل الغلط. [ونص عليه في (المنتخب) (6) أيضاً] (7).
فمعنى قولنا: شبهة هو الوطء الذي لم يتقدمه سبب الإستباحة ، ووقع على سبيل الغلط.
والشافعي يخالف في هذا، ويسوي بينه وبين الوطء الحلال.
__________
(1) انظر الأحكام 1/378/379.
(2) في (أ): غير زوجها.
(3) انظر المنتخب 133.
(4) انظر الأحكام 1/380.
(5) سقط من (أ).
(6) انظر المنتخب 133.
(7) سقط من (أ).(51/38)


والدليل على ما ذهبنا إليه في هذا الباب قول الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنً النِّسَاءِ}، وقوله: {وَانْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}، وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وغيرها من /23/ الظواهر؛ إذ لم يستثن سبحانه منها من وطئت أمها أو ابنتها على سبيل الغلط، ولا التي وطئها ابن الناكح أو أبوه على سبيل الغلط، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما يحرم ما كان نكاحاً حلالاً)، وقد علمنا أن الوطء على سبيل الغلط لا يجوز أن يقال فيه أنَّه نكاح حلال، على أن أصحابنا قد قالوا: إن ذلك الوطء حرام، فإذا ثبت، دخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحرم الحرامُ الحلالَ).
فإن قيل : فلم قلتم: إنَّه حرام، وما أنكرتم على من قال لكم إنَّه لو كان حراماً لكان فاعله عاصياً ومستحقاً للذم؟(51/39)


قيل له: نقول إنَّه حرام لقول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ..} الآية، فهذا قد وطئ غير من هي له زوجة وغير ملك اليمين، فوجب(1) أن يكون من العادين، وهذا يوجب أنَّ ما فعله حرام، فأما كونه عاصياً، ومستحقاً للذم، ففيه بعض النظر؛ لأن العاصي يكون عاصياً بفعل ما كرهه الله منه، واستحقاق الذم أيضاً تابع لذلك، وقد قال أصحابنا من المتكلمين أنَّه لا يجب أن يكون الله تعالى كارهاً لما يفعل على سبيل السهو، وإن كان الفعل قبيحاً، إلاَّ أن ذلك لا يخرج الفعل من أن يكون قبيحاً، فيجب ما قلناه في هذا الوطء أنَّه حرام؛ لأن الحرام هو القبيح الذي يقع من المكلف، ويؤيد هذه الطريقة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه>، على أنا لو قلنا: إنَّه قد عصى واستحق الذم، لم يبعد؛ لأنَّه لا بد أن يكون قد حصل منه بعض التقصير؛ لأنَّه لو تأمل حق التأمل، واستكشف الحال فَضْلَ استكشاف العلم، ومما يدل على أن ذلك الوطء قبيح أن لنا المنع منه، ألا ترى أنا لو رأينا رجلاً يريد أن يطأ امرأة أجنبي لغلطة عرضت له، كان لنا أن نمنعه من ذلك بكل وجه، بل كان يلزمنا ذلك، فدل على أنَّه حرام، ولذلك استدل كثير من أصحابنا المتكلمين على أن في أفعال الأطفال والبهائم ما يقبح، يحسن منعنا لهم من كثير من الأفعال، ويدل على ذلك أنَّه وطء لا يجوز للواطئ المقام عليه مع علمه بصفته التي هو عليها، فوجب أن يكون حراماً، دليله الزنى، والوطء في الحيض والإحرام، وغير ذلك من الوطء المحرم، فإذا صح أنَّه حرام بما بيناه تناوله العموم على ما ذكرناه، ومما يدل على أن هذا الوطء لا يقع به التحريم ما أجمعنا والشافعي عليه من أن الزنى لا يقع به التحريم، فكذلك ما اختلفنا فيه، والعلة انه وطء لم يصادف نكاحاً ولا ملكاً على صحة أو شبهه، فوجب أن لا يقع التحريم به
__________
(1) في (أ): فيجب.(51/40)

83 / 142
ع
En
A+
A-