والذي يدل على أن الدين يجب أن يكون مراعي في الأكفاء، هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه [أي سجيته] (1) فانكحوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) فراعى صلى الله عليه وآله وسلم الدين، ولم يأمر بالنكاح(2) إلاَّ إذا كان(3) الخاطب ممن ترضون(4) دينه، وأيضاً وجدنا الإنسان يشرف من جهتين: إحداهما أفعاله، والثانية أحواله التي هي غير أفعاله، فلما ثبت أن أعلى(5) الأحوال التي هي غير أفعاله [كان] (6) مدخلاً في الأكفاء، وهو النسب، وجب أن يكون لأعلى الأفعال أيضاً مدخل فيه وهو الدين، والعلة أنَّه إحدى جهتي شرفه، على أنا وجدنا الدين له مدخل في إفساد النكاح، فهو الأولى أن يكون المعتبر به في الأكفاء، ويعضده قول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ} وقد علمنا أن الإنكاح هو الموادة، وإذا نهى المؤمن عن موادة من حاد الله ورسوله، فهو منهي عن إنكاحه حرمته، فإذا امتنع منه لا يكون عاضلاً، وإذا لم يكن /20/ عاضلاً، لم يجز نكاحها دونه، فثبت بذلك أن الدين مراعى في الأكفاء، على أن الآية مما يصح أن يعتمد عليها لابتداء الدلالة.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): بالإنكاح.
(3) في (أ): أن يكون.
(4) في (أ): يرضى.
(5) في (أ): الأعلى.
(6) سقط من (أ).(51/31)


وأما ما يدل على أن النسب مراعى فيه، فهو ما روي عن ابن عمر، وعائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (العرب بعضها أكفاء لبعض(1)، قبيلة بقبيلة، وحي بحي، ورجل برجل، والموالي بعضها أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، وحي بحي) فدل ذلك(2) على أن النسب مراعى في الأكفاء [و] (3) لولا ذلك لقال المسلمون بعضهم أكفاء لبعض، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر المسلمين فقال: (تتكافأ دماؤهم) وقصر الأكفاء الذي بينهم على الدماء، ولم يقل: بعضهم أكفاء لبعض، فبان بما ذكرنا أن النسب يراعى فيه، ويدل عليه قول سلمان رحمه الله: أمرنا أن ننكحكم، ولا ننكح إليكم، وكان رحمه الله من أكابر المسلمين، وعلية الصحابة، فدل ذلك على أن للنسب مدخلاً فيما ذكرناه، ويبين أن للنسب مدخلاً في الفضل:
ما أخبرنا به أبو سعيد الأبهري، قال: حدثنا الحسن بن نصر، حدثنا يسر بن بكر، حدثنا الأوزاعي، حدثنا أبو عمار، قال: حدثنا واثلة بن الأسقع، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ولا حكم يتعلق بما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الشرع إلاَّ الأكفاء في النكاح، وما ذكرناه من القياس على من راعى فيه النسب، ولم يراع الدين يمكن أن يستدل به على من يراعي الدين، ولم يراع النسب، على أن النكاح يعتبر فيه الغضاضة، ألا ترى أن الحرة تتزوج على الأمة، والأمة لا تزوج على الحرة، وقد علمنا أن أكثر الغضاضة في الأمور الدنيوية هي الغضاضة التي ترجع إلى الأنساب، فوجب أن تكون معتبرة في الأكفاء، ويبين أن غير النسب لا يراعي بعد الدين قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (العرب بعضها أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، وحي بحي، ورجل برجل) ولم يعتبر المال والصناعة.
__________
(1) في (أ): أكفاء بعضها لبعض.
(2) في (أ): بذلك.
(3) سقط من (ب).(51/32)


ومما يدل على أن المال لا(1) يعتبر في الأكفاء: ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن حسين، عن خالد، عن حصين، عن جعفر، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك التزويج مخافة الفاقة، فقد أساء بربه الظن، إن الله تعالى يقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ} فدل قول صلى الله عليه وآله وسلم [على قبح ترك التزويج مخافة الفاقة] (2) إذ جعل ذلك إساءة الظن بالله، وإذا كان [ذلك] (3) كذلك لم يصح يكون المال مما يراعى في الأكفاء، إذ لو كان المال مما يراعى في الأكفاء، لم يكن المراعي لفقده مذموماً، وإذا لم يجب أن يراعى فيه المال، لم يجب أن تراعي فيه الصناعة، إذ لم يجعل أحد الصناعة أوكد من المال.
مسألة [فيما يُحرِّم من الوطء وهل يحرم الحرام حلالاً]
قال: ولو أن رجلاً وطيء امرأة حراماً أو بشبهة لم تحرم عليه أمها ولا ابنتها ولا تحرم هي على ولد الواطيء ولا والده، وكذلك إن وطيء أم امرأته أو(4) ابنتها لم تحرم عليه امرأته، فكذلك إن وطيء الرجل امرأة ابنه لم تحرم على زوجها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (5).
وهو قول الشافعي، إلاَّ في الشبهة، قال أبو حنيفة: جميعه يحرم.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، وقوله: {وَانْكِحُوا الأَيَامَى /21/ مِنْكُمْ} فلم يستثن ما ذكرناه. ويدل على ذلك حديث نافع، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحرم الحرامُ الحلالَ).
__________
(1) في (أ): يجب أن.
(2) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(3) سقط من (ب).
(4) في (ب): و.
(5) انظر الأحكام 1/363 ـ 364.(51/33)


ويدل على ذلك حديث عبدالله بن نافع [المخزومي](1)، عن المغيرة بن إسماعيل، عن عثمان بن عبدالرحمن، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الرجل يتبع المرأة حراماً، أينكح ابنتها؟ أو يتبع البنت حراماً هل ينكح أمها؟ قال: (لا يحرم الحرام حلالاً(2) إنَّما يحرم ما كان نكاحاً حلالاً).
فدل الخبر على ما ذهبنا إليه من وجوه:
أحدها أن السائل لما سئل عن اتباع المرأة حراماً أجاب صلى الله عليه وآله وسلم بما دل على أنَّه لا يحرم، واتباع المرأة حراماً كناية من جهة العرف عن الزنا.
والثاني عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحرم الحرامُ الحلالَ) فوجب بهذا الظاهر أن يكون [جميع](3) الحرام لا يحرم الحلال إلاَّ ما منع منه الدليل.
والثالث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما يحرم ما كان نكاحاً حلالاً) وإنما إذا دخل في الكلام دل على تخصيص الحكم بما تعلق به، فثبت أن ما لم يكن نكاحاً حلالاً لا يقع به التحريم.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، والنكاح اسم للوطء، فكأنه تعالى نهى عن وطء من وطئها الآباء، وفي هذا ثبوت ما نذهب إليه.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (أ): الحلان.
(3) سقط من (ب).(51/34)


قيل له: [إنَّ](1) النكاح حقيقة عرفاً وشرعاً للعقد، وهو في الوطء قد صار اتساعاً بدلالة أنَّه إذا [قيل له] (2) فلان نكح فلانة لم يعقل منه إلاَّ العقد، وكذلك الإنكاح لا يعقل منه إذا أطلق إلاَّ العقد، وكل تحليل أو تحريم علق بضرب من النكاح في الشرع فليس يرجع به إلاَّ إلى العقد، والآيات التي ذكر فيها النكاح المراد بها العقد نحو قوله تعالى: {لا تَعْضِلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}، وقوله سبحانه: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، وقوله: {إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ}، وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، وقوله: {وَانْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} وكذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا نكاح إلاَّ بولي وشاهدين) المراد به العقد، لا خلاف فيه، وكذلك ما روي عنه عليه السلام(3) أنَّه نهى عن نكاح السر، وعن نكاح الشغار، ونكاح المتعة، وكل ذلك يحقق أن إطلاق العرف والشرع يوجب أن النكاح هو العقد، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن المراد بقوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، العقد فلا يمكن التعلق به لقولهم.
فإن قيل: فقد روى أهل اللغة أن اسم النكاح كان اسماً للوطء، وهو مأخوذ من الجمع، وروي لعن الله ناكح البهيمة.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) زياد في (ب).
(3) في (أ): صلى الله عليه وآله وسلم.(51/35)

82 / 142
ع
En
A+
A-