قد نص في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2) أن نكاح الأمة لا يفسد بوجود(3) السبيل إلى الحرة، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً إلاَّ ما ذكر عن المزني أنَّه كان يقول: إن نكاح الأمَّة يفسد بوجود السبيل [إلى الحرة] (4) لزوال الشرط المبيح له وحكى نحوه ابن جرير(5) عن مسروق وهذا فاسد؛ لأن أحد الشرطين: هو خوف العنت، ولا خلاف أنَّه إذا زال، لم يبطل نكاح الأمة، وإن كان لا بد منه في ابتداء العقد.
فكذلك الشرط الآخر الذي هو عدم الطول، والعلة أنَّه أحد شرطي جواز نكاح الأمة.
فإن قيل: خوف العنت يعود بفسخ النكاح، لأنَّه به ارتفع.
قيل له: إذا ارتفع، فلا معتبر بجهة ارتفاعه، وصح قياسنا، على أن الذي ادعوه من ارتفاعه لوجود النكاح لا معنى له، فقد يجوز أن يرتفع(6) بعارض غير وجود النكاح، ولا خلاف أن العلة وإن منعت ابتداء عقد النكاح فإن طروها على النكاح لا يفسده، فكذلك وجود الطول إلى الحرة يجب أن لا يفسد نكاح الأمة، والعلة أنَّه معنى له مدخل في المنع من النكاح، ويختص بأحد الزوجين، ويبين صحة هذه العلة وإن كان يمنع ابتداء النكاح أن الرضاع والردة لما منعتا ابتداء النكاح، وأبطل طروهما النكاح، لم يختصا أحد الزوجين، بل كان حصول كل واحد منهما من جهة كل واحد من الزوجين على سواء، وأيضاً وجدنا الإحرام لا يفسد طروه على النكاح، وإن كان يمنع(7) ابتداء النكاح، فكذلك ما اختلفنا فيه من وجود الطول، والمعنى أنَّه سبب لا يتأبد حكمه، ولا هو معصية، والأصول شاهدة لنا؛ لأن شيئاً منها لا يوجب فسخ شيء من العقود الثابتة بطرو اليسار.
__________
(1) انظر الأحكام 1/342.
(2) انظر المنتخب 133.
(3) في (أ): في وجود.
(4) سقط من (ب).
(5) سقط من (ب).
(6) يرفع في (ب).
(7) في (ب): منع.(51/26)
ووجه استحبابنا لفراقها(1) لئلا يحصل به استرقاق الولد، فإنه يستحب للرجل استنقاذ ولده من الرق إذا أمكنه، فكان أولى من ذلك أن يستحب له توقي(2) استرقاقه، وهذا الذي ذكرناه من الإستحباب منصوص عليه في (المنتخب)(3).
مسألة [في نكاح العبد للحرة]
قال: ولا بأس للعبد أن تتزوج الحرة إذا(4) رضي سيده وعرفت /18/ الحرة أنَّه عبد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (5) لا خلاف أن نكاح العبد لا يثبت إلاَّ بإذن سيده فقد روى أبو داود في السنن بإسناده عن جابر أنَّه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر) وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو زان) واشترطنا أن تعرف الحرة أنَّه عبد لأنها لو لم تعرف ذلك كانت مغرورة، وكان لها فسخ النكاح على ما نبينه من بعد على أنَّه لا خلاف في جواز النكاح الذي ذكرناه ووصفناه، وإنما الخلاف فيه إذا لم يقع على هذا الوجه وسنبينه فيما بعد في موضعه إن شاء الله تعالى.
مسألة
قال: ولا بأس أن تزوج المرأة غير كفؤ إذا رضيت ورضي الولي تخريجاً، وإن أبى ذلك الولي لم يجز، قال في الأحكام في ذكر الأكفاء (والأولياء وهم(6) الناظرون في أمرهن المتخيرون لحرماتهم)، فنبه على أن لهم الخيار في ذلك، فلا يكون ذلك إلاَّ بموافقة المرأة؛ فلذلك قلنا: إنهم إذا رضوا بغير كفؤ، ورضيت المرأة، جاز النكاح، ثُمَّ قال: (وإن كرهوا أحداً لم يلزموا)، فكان ذلك نصاً في أن لهم منعها من أن تنكح غير كفؤ.
__________
(1) في (ب): لفراقه.
(2) في (أ): أن يتوقى.
(3) انظر المنتخب 133.
(4) في (أ): أن.
(5) انظر الأحكام 1/366.
(6) في (أ): هم.(51/27)
وروى أبو العباس الحسني(1) عن محمد بن منصور، قال: سمعت القاسم عليه السلام يقول: ولو أن رجلاً كان من أبناء الفرس من يرضي دينه رأيت أن أزوجه عربية. فكان ذلك نصاً فيما ذكرناه من أن المرأة والأولياء إذا تراضوا بمن ليس بكفؤ جاز النكاح، وهو قول عامة العلماء، وحكي عن قوم أنَّه لا يجوز.
والذي يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقوله سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فلم يستثنِ ذات حسب من غيرها.
وروى أبو داود في (السنن) بإسناده عن أبي هريرة أن أبا هند حجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليافوخ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بني بياضة، انكحوا أبا هند، وانكحوا إليه) (2).
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج ضباعه بنت عمرو بن الزبير بن عبد المطلب المقداد بن عمرو [هو ابن الأسود الكندي] (3).
وروى أن زيد بن حارثة ـ تزوج وهو مولى ـ زينب بنت جحش وهي قرشية، وتزوج بلال هالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف، وزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنتيه من عثمان، وأخرى من أبي العاص، وزوج أمير المؤمنين عليه السلام ابنته عمر بن الخطاب.
وروى أن سلمان خطب إلى عمر ابنته، فأنعم له، فشق ذلك على ابنه عبدالله، فذكر ذلك لعمرو بن العاص، وسأله أن يدبر، فأتى عمرو سلمان فقال: هنيئاً لك يا سلمان، تواضع لك عمر، فقال: ألي(4) تواضع، والله لا تزوجتها.
فدلت هذه الأخبار على صحة النكاح على الوجه الذي ذكرناه؛ ولأن ذلك حق لهم فإذا(5) تركوه، جاز، كالمهر لما كان حقاً للمرأة، جاز أن ترضى بدون مهر مثلها.
__________
(1) في (أ): رحمه الله تعالى.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/240.
(3) زياة في (ب).
(4) في (ب): لي.
(5) في (ب): إذا.ف(51/28)
ووجه قولنا: أن الولي إذا أبى ممن(1) ليس بكفؤ لم يجز النكاح؛ [إذ] (2) أن الكفؤ قد ثبت أنَّه يراعى في النكاح(3)؛ لما نبينه من بعد، فإذا ثبت ذلك، كان للولي أن يمنعها من النكاح لمن ليس بكفؤ؛ إذ ذلك حط للولي لما يدخل عليه من /19/ الغضاضة، فله(4) أن يمنعها من ذلك، لأنَّه حق له، وله أن يستوفي حقه في ذلك، كما لها استيفاء سائر حقوقها.
وروي أن أم سلمة لما خطبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: إنَّه لم يحضر أحد من أوليائي، فقال [النبي] (5) صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس أحد من أوليائك ـ حضر أو غاب ـ إلاَّ وهو يرضاني) فبين أن الأحوال التي هو عليها صلى الله عليه وآله وسلم مما يجب معها على الأولياء الرضى به، فلو لم يكن لرضائهم معتبر، لم يقل ذلك، ولقال، وما في حضورهم وغيبتهم؟
ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقُتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضُوا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} وليس هاهنا(6) معروف يتعلق في المناكحة بالأولياء إلاَّ النظر في الأكفاء، فدلت الآية على أن الأولياء لا يمنعوهن أن ينكحن بشرط أن يضعن أنفسهن في الأكْفَاء على أنَّه ليس من المعروف أن تضع الشريفة نفسها في دَعيّ وما أشبهه.
وروي عن سلمان أنَّه قال: أمرنا أن ننكحكم ولا ننكح إليكم، مع أنَّه [قد] (7) خطب الى عمر ابنته، فدل ذلك على أن المراد بذلك إذا لم يرض به الأولياء.
__________
(1) في (أ): من.
(2) سقط من (أ).
(3) في (ب): بالنكاح.
(4) في (أ): وله.
(5) سقط من (أ).
(6) في (ب): هنا.
(7) سقط من (أ).(51/29)
وروي عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول(1) الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزوجن النساء إلا من الأكفاء ولا مهر دون عشرة دراهم)، وإذ قد ثبت فيما مضى جواز نكاح من ليس له بكفؤ دل على أن المراد في هذه إذا كره الأولياء، وعن عمر قال بحضرة الصحابة لأمنعنَّ ذوات الأحساب أن لا يزوجن إلاَّ من الأكفاء، ولم يخالَف فيه، فثبت ما قلناه.
مسألة [في تفسير الكفاءة]
قال: (والكفؤ يكون في النسب والدين جميعاً).
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2)، ومروي فيه عن القاسم عليه السلام، وقال في (الأحكام)(3): (الكفؤ في الدين والنسب فقط). فدل على أنَّه لا يراعي غيرهما.
وجعل زيد بن علي عليهم السلام الكفؤ في الدين لا غيره، وهو قول الناصر عليه السلام. قال أبو حنيفة الكفؤ في المال والحسب والدين، وقال أبو يوسف نحوه وزاد الصناعات.
وقال محمد هو في الحسب والمال، ولم يراع الدين.
__________
(1) في (أ): النبي.
(2) انظر الأحكام 1/366.
(3) انظر الأحكام 1/336.(51/30)