قيل له: تسمية جميع ذلك بما ذكرتموه لا يدل على ما ذكرتموه، وعلى أنَّه ملة واحدة، ألا ترى أنه قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما عدَّ أنبياءه الماضين: {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، فأجرى سبحانه ما كانوا هم عليه مجرى هدي واحد، ولم يمنع ذلك من أن يكون لهم ملل مختلفة، فلا وجه لامتناع من يمتنع من أن مللهم عليهم السلام يجوز أن تختلف؛ لأن الملة اسم للشريعة، وهي(1) مأخوذة من الإملال الذي هو الإملاء، ولا خلاف أن شرائع كثير منهم قد اختلفت، ولهذا لم يمتنع كثير من أصحابنا المتكلمين من إطلاق القول في المجبرة والمشبهة مع ثبوت كفرهم أنهم من أهل ملتنا لانتحالهم شريعتنا، ولا أحفظ خلافاً في أن الفاسق يقال له من أهل ملتنا، وإن كان لا يجري عليه اسم الإيمان، ومما يدل على ذلك ما رواه أبو بكر الجصاص في شرحه (مختصر الطحاوي) بإسناده عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تجوز شهادة ملة على ملة إلاَّ ملة الإسلام فإنها تجوز على الملل كلها) فأثبت [النبي] (2) صلى الله عليه وآله وسلم، بظاهر قوله ثلاث ملل، لأن الملل جمع ملة، وأقل الجمع يجب أن يكون ثلاثة، وهذا نص ما ذهبنا إليه، لأن من يخالفنا يقول: إنَّه ليس غير(3) ملتين ملة الإسلام، وملة الكفر، فإذا وجب اثبات ملة ثالثة لظاهر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثبت أن الكفر ملل.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إنَّه أطلق لفظ الملل، وأراد ملتين، فعبر عن الإثنين بلفظ الجمع؟
قيل له: حقيقة الجمع لا تكون لأقل من ثلاثة، وإنما يجري لفظ الجمع على الاثنين على طريق(4) المجاز، فإذا كان هذا هكذا، لم يصح ما قالوه، لأنَّه يؤدي إلى صرف قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحقيقة إلى المجاز.
__________
(1) في (أ): هو.
(2) سقط من (ب).
(3) في (أ): إلا.
(4) في (أ): سبيل.(51/21)


فإن قيل: ألستم تقولون إن من انتقل إلى التهود أو التنصر أو التمجس خُلِّي بينه وبين ما صار إليه، فكيف تقولون: إن الكفر ملل مختلفة؟
قيل له: إن الإكراه والقتل لا يتعلق بالانتقال من ملة إلى ملة فقط حتى يكون للملة(1) التي انتقل عنها صفة، والملة التي انتقل إليها صفة، وأن تكون التي انتقل عنها ملة الإسلام، ألا ترى أن من انتقل من ملة الكفر إلى ملة الإسلام لا يمنع منه، فإذا ثبت ذلك فنحن خلينا بين من سألت عنه وبين ما صار إليه، لأنَّه لم ينتقل عن ملة الإسلام، وإنما انتقل عن ملة كفر إلى ملة كفر، فإذا ثبت ما بيناه من اختلاف مللهم، ثبت أن مناكحة بعضهم لبعض لا تصح؛ لاختلاف مللهم، دليله أن المناكحة بين المسلمين والذميين لا تجوز، ويمكن ألاَّ نبين أن لا توارث بينهم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا توارث بين أهل ملل شتّى)، ثُمَّ يقال: لهم لم يثبت بينهم التوارث مع كون كل واحد منهم وارثاً وموروثاً، فوجب أن لا يصح التناكح قياساً على الذمي والمسلمة؛ إذ لا خلاف فيه، أو قياساً على أهل الملل /16/ وأهل الذمة؛ إذ قد دللنا عليه.
مسألة [في نكاح الحر للأمة]
قال: ولا يحل للرجل أن يتزوج أمة إلاَّ أن لا يجد السبيل إلى الحرة.
وهذا مما قد نبه عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام) (2) و(المنتخب).
وذكر أبو العباس الحسني(3) أن ابن جهشيار روى عن القاسم عليه السلام حظرَ نكاحهن على الحر إلاَّ باجتماع معنيين. عدم الطول، وخشية العنت، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك إذا(4) لم يكن عنده حرة.
__________
(1) في (ب): الملة.
(2) انظر الأحكام 1/342.
(3) في (أ): رضي الله عنه.
(4) في (أ): إن.(51/22)


والدليل على هذا قوله تعالى: {وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَولاً أَن يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، فليس يخلو المراد به من أن يكون إباحة نكاحهن، أو جعل عدم الطول شرطاً في استباحة نكاحهن، وحمله على أن عدم الطول شرط في نكاحهن واستباحته أولى من حمله على الاستباحة(1)؛ لأنا قد علمنا وعقلنا الإباحة من سائر الظواهر، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، وقوله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، وقوله: {فَانْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}، ومتى ما حملنا ما ذكرناه على الإباحة، حملناه على التكرير، ولم نجعل له فائدة، وإذا حملناه على الوجه الذي ذكرنا، جعلنا له فائدة، وحمل الآية على وجه يفيد أولى من حملها على التكرير، وإذا ثبت أن حملها على هذا الوجه أولى، ثبت أن عدم الطول شرط في استباحة نكاحهن، وعلى هذه الطريقة يستدل بقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}.
فإن قيل: فقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ}، يدل على التخيير بين الحرة والمملوكة في عقد النكاح، وفي هذا صحة ما ذهبنا إليه، وفساد مذهبكم.
__________
(1) في (أ): الإباحة.(51/23)


قيل له: الاية لا ظاهر لها، فلا يصح التعلق بها، وذلك أن التخيير لا يصح بين واحدة وبين ما ملكت اليمين؛ لأن التخيير لا يصح بين الشيئين إلاَّ إذا لم يكن أحدهما داخلاً في الآخر، ألا ترى أنَّه لا يصح أن يقال رأيت اليوم رجلاً أو شيخاً؛ لأن قولنا شيخاً ينطوي على قولنا رجل، وإنما يصح أن يقال رأيت رجلاً أو امرأة، فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى: {أَوَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يتضمن قوله: {وَاحِدَةٌ} فلا يصح التخيير، فلا بد من أن نقدر فواحدة حرة حتى يستوي ما ادعوه، وإذا ثبت ذلك، قلنا: إن القول أن تقديره فواحدة أو وطء ما ملكت أيمانكم، وإذا حصل في جنب كل واحد ما مر من التأويل، حصل التساوي، وبطل تعلقهم بالآية، على أنَّه لا يمتنع، أن يكون تعالى أراد بقوله جل ذكره: {فَانْكِحُوا} العقد في الحرائر، والوطء في الإماء، فيحمل في الإماء على الوطء، وفي الحرائر على العقد، فيبطل التخيير الذي ادعوه، وهكذا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِيْ السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِيْ الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ}، فأراد بقوله (يسجد) ظهور آثار الذل والخضوع فيما ذكره من الجمادات والبهائم، والسجود المخصوص فيما ذكره كثير من الناس؛ لأنه لا يجوز أن يكون أراد السجود والمخصوص فيما ذكر من من الجمادات والبهائم؛ لأن ذلك لا يتأتَّى منها، ويستحيل، ولا يجوز أن يكون أراد ظهور آثار الذل والخضوع من كثير من الناس، لأنَّه لو أراد ذلك تعالى(1) من الناس ولم يقل: {وَكَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ} لأن آثار الذل والخضوع ظاهر من جميع الخلائق، والناس وغيرهم في ذلك سواء.
__________
(1) في (أ): والناس لم يقل ومن مات لقال والناس.(51/24)


فإن قيل: فنحن نحمل قوله تعالى: {وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَولاً أَنْ يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} على الوطء، فكأنه سبحانه قال: ومن لم يستطع منكم وطء الحرائر؛ لأنَّه لا يملك بضع واحدة منهن فما ملكت أيمانكم.
قيل له: هذا صرف الآية(1) عن ظاهرها، لأن /17/ النكاح عندنا حقيقة في العقد، فلا يصح التعلق به، ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أنَّه إذا كان تحته حرة لم يجز له التزويج بالأمة، فكذلك إذا تمكن من نكاحها، والعلة أنَّه قادر على الحرة، فوجب أن لا يجوز له نكاح الأمة، والأصول تشهد لصحة علتنا؛ لأن القدرة على تحصيل الشيء تجري مجرى حصوله، ألا ترى أن التيمم لما لم يجز مع وجود الماء، لم يجز مع التمكن من الوصول إليه، وكذلك الصيام لَمَّالم يجز في كفارة القتل والظهار مع وجود الرقبة، لم يجز مع تمكن الوصول إليها، ويمكن أن يقال: هو حر غني عن استرقاق ولده، فوجب أن لا يجوز له ابتداء نكاح الأمة، دليله لو كانت عنده حرة، وقياسنا أولى من قياسهم واجد الطول على من لم يجده بعلة أنَّه غير مالك لفراش حرة؛ لأن قياسنا مما نبه النص عليه، وقياسهم على ضد ما نبه النص عليه، وقياسنا يفيد شرطاً طريقة اتباعه الشرع، وقياسهم ينفيه، وقياسنا يقتضي الحظر، وقياسهم يقتضي الإباحة.
مسألة [فيمن وجد الحرة بعد نكاحه الأمة]
قال: فإن(2) تزوج الأمة ثُمَّ وجد السبيل إلى الحرة، استحب له فراقها، وكره له إمساكها.
__________
(1) في (أ): للآية.
(2) في (أ): وإن.(51/25)

80 / 142
ع
En
A+
A-