فأما ترتيب(1) الآية، فهو أن اللّه خاطبنا، فقال: {الْيَومَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ}، ثم قال: {وَطَعَامُ الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ثم ابتدأ بعد ذلك تحليلاً آخر فقال: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهَمْ} ثم عطف عليه{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} فدل ذلك على أن المحصنات من المؤمنات حل لهم؛ لكون(2) تحليلهن معطوفاً على تحليل طعامنا لهم، فوجب كون الممؤنات حلالاً له وهذا لا يصح إلاَّ بعد إسلامهم، لأنَّه لا خلاف أن نكاح المؤمنات لا يحل لهم مع بقائهم على الكفر، فدل ذلك على أن المراد بقوله تعالى أهل الكتاب في هذا الآية هم الذين أسلموا منهم فكذلك(3) قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اللواتي أسلمن منهم(4) أو لم يفرق أحد بين الموضعين.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتُ} راجعاً إلى أول الآية حيث يقول: {وَطَعَامُ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} دون الذي يليه؟
قيل له: إن جاز لكم ما ادعيتموه ـ مع أنَّه صرف لترتيب الآية عن ظاهره ـ جاز لنا أن نقول: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوْتُوا الْكِتَابَ} راجع إلى الكتابيين حتى يكون تقدير الكلام وطعامكم حل لهم والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، فتكون المحصنات من المؤمنات حل للمؤمنين، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب حل للذين أوتوا الكتاب، وجملة الأمر قد ساويناهم في استعمال هذه الآية؛ لأنا قد جعلنا قوله للذين أوتوا الكتاب وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، في حكم المصروف عن الظاهر وهم جعلوا الترتيب والنظام في حكم المصروف عن الظاهر، وسلم لنا سائر الأدلة، وسقط تعلقهم بالآية.
__________
(1) في (أ): ترتب.
(2) في (أ): ليكون.
(3) في (أ): كذلك.
(4) في (أ): منهن، وفي هامش (ب).(51/16)
والوجه الثاني: الذي يدل على أن المراد بقوله: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اللواتي أسلمن منهن دون المقيمات على الشرك ما رواه نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: <من أشرك بالله، فليس بمحصن> فدل ذلك على أن اطلاق اسم الإحصان عليهن يوجب أنهم غير مشركات بالله وأنهن مسلمات.
فإن قيل: فإذا كان المراد بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اللواتي أسلمن منهن فما الفائدة بذلك، فإنهن وسائر المسلمات سواء؟
قيل له: إن العرب الذين كانوا بمكة، ولم يكن إسلامهم عن التهود والتنصر، كانوا يأنفون من اللواتي تُبن عن التهود والتنصر ويعافونهن، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وأراد ذلك الذي كان في نفوسهم.
فإن قيل: فقد روي عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <أحل لنا ذبائح أهل الكتاب، وأحل لنا نساؤهم، وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا>.(51/17)
قيل له: هذ حديث ضعيف لا نعرفه؛ مع أنه مع ضعفه يمكن أن يتأول(1) فيقال: أحل لنا ذبائحهم ونساؤهم إذا أسلموا، وحرم عليهم نساؤنا ما داموا على الكفر، وتكون الفائدة فيه ما ذكرناه في الآية، وأجمع أكثر هل العلم على أن المسلم لا يجوز له نكاح المجوسية، ولا خلاف أنَّه لا يجوز له نكاح الوثنية، فكذلك نكاح الكتابية قياساً عليهما، والعلة أنها كافرة، ولا خلاف أيضاً أن الذمي لا يجوز له نكاح المسلمة فكذلك المسلم لا يجوز له نكاح الذمية قياساً عليه، /14/ والعلة أنهما على ملتين مختلفتين، أو يقال: أنهما لا يتوارثان مع صحة كون كل واحد منهما وارثاً وموروث، وأيضاً وجدنا الرضاع لما كان طرؤه على النكاح مفسداً له، وجب أن يمنع الصحة مما يطرأ عليه من النكاح، فوجب أن يكون الكفر يمنع من صحة ما يطرأ عليه من نكاح المسلم قياساً على الرضاع؛ لأن طرؤه على نكاح المسلم يفسده، ولا خلاف بيننا وبين الشافعي في أن المسلم لا يجوز له نكاح الأمة الكتابية والعلة أنها كافرة، ويكشف أن العلل التي ذكرناها أنه(2) تتعلق الحكم في الأصول التي قسنا عليه أنه يوجد بوجوده ويعدم بعدمها، وكل قد اعتبر الكفر على بعض الوجوه لإبطال النكاح.
فإن قيل: وجدنا الكفر على ثلاث طبقات، منها أغلظ، وأوسط، وأخف، فأما الأغلظ كفراً فهم عبدة الأوثان، ألا ترى أنهم لا تؤخذ الجزية منهم، ولا يقرون على دينهم، والأوسط كفراً فهم المجوس؛ لأنهم مقرون على دينهم، وتؤخذ الجزية منهم، والأخف كفراً هم أهل الكتاب، فيجب أن يميزوا على المجوس ولا تميز إلاَّ ما ذكرناه من استباحة نسائهم وذبائحهم.
__________
(1) في (أ): من ضعَّفه يمكن أن يتناوله.
(2) في (أ): ذكرناها بها يتعلق.(51/18)
قيل له: هذا اعتبار يبطله النص وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <سنوا بهم ـ يعني المجوس ـ سنة أهل الكتاب> فوجب أن لا يفرق بينهم وبين المجوس، على ان المسلمين أجمعوا على أنَّه لا يفرق بينهم، فإن المسلمة لا تحل لأحد منهم، فكذلك لا يمتنع ألا يفرق بينهم وأن واحدة منهم لا يجوز أن يتزوجها وهو مسلم إذ التمييز بينهم في كل وجه لا يجب، ولا معنى لدعوى من يدعي الإجماع في إباحة نكاحهن، فقد ذكر أبو العباس الحسني [في](1) النصوص في ذلك عن عدة من أهل البيت عليهم السلام بأسانيده.
مسألة [في نكاح أهل ملتين مختلفتين]
قال: وكذلك القول في كل أهل(2) ملتين مختلفتين، لا يتزوج اليهودي نصرانية، ولا النصراني يهودية ولا مجوسية، ولا المجوسي يهودية ولا نصرانية.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3).
ووجه هذه المسألة بيان تحريم الكتابيات على المسلمين؛ إذ لا خلاف في أن تحريم المسلمات على الكتابيين، وقد مضى في تحريم الكتابيات على المسلمين ما فيه كفاية، ثم بيان أن ملل الكفر مختلفة، ووجه بيان القياس فيه، والذي يدل على أن الكفر ملل مختلفة أنا وجدنا ما يتمسك به كل فريق منهم من دين وشريفة يخالف بعضه بعضاً في أصله وفرعه موردة ومصدره يكون مللاً مختلفة، ألا ترى أنا لا نقول أن موسى وهارون وداود وسليمان عليهم السلام مللهم مختلفة بل نقول: إنهم (كانوا) (4) على ملة واحدة لما(5) كانت شريعتهم شريعة واحدة لم تكن يخالف بعضها بعضاً عى الوجه الذي ذكرناه، ولا يمتنع أن نقول أن موسى وعيسى ومحمداً عليهم السلام مللهم(6) مختلفة لما كان في شرائعهم الاختلاف على الوجه الذي ذكرناه، وإن كان الجميع يجمعه [اسم] (7) الإيمان والهدى.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): أهل كل.
(3) انظر الأحكام 1/394 ـ 395.
(4) زيادة في (أ).
(5) في (أ): كما.
(6) في (ب): ملتهم.
(7) سقط من (أ).(51/19)
فإن قيل: فيلزمكم على هذا أن يكون المسلمون على ملل مختلفة، لأنهم قد اختلفوا في الأصول والفروع.
قيل له: معاذ اللّه من ذلك فإنهم لم يختلفوا في أصول الشريعة، ولسنا نعني بالأصول ما قدرته، ألا ترى أنهم لا يختلفون في أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينسخه، حق، وكلما ثبت من شريعته هو الذي يجب التمسك به، وإنما اختلفوا في تأويل ما صح عنه، أو في صحة الشيء عنه، /15/ وليس كذلك حال اليهود والنصارى فإن مخالفة بعضهم لبعض على حد مخالفة المسلمين لهم ولكل واحد منهم ومخالفتهم ومخالفة كل واحد منهم للمسلمين، فبان ما ادعيناه من أن مللهم مختلفة، وقد نبه اللّه تعالى(1) على ذلك بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} ولا يجوز أن نحمله على أنه تعالى نبهنا على ما علمنا ضرورة، فإذاً هو تنبيه على اختلاف أحكامههم التي لا تعرف إلاَّ شرعاً.
فإن قيل: وقد قال اللّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ..} إلى قوله: {لَكُمْ دِيْنُكُمْ وَلِيَ دَيْنِ} فجعل ما هم عليه ديناً واحداً، فدل على أنَّه ملة واحدة.
__________
(1) في (أ): سبحانه.(51/20)