ومن طلق امرأته ثلاثاً لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ويجامعها في فرجها، ثم يطلقها، أو يموت عنها، وتنقضي عدتها، إذا تزوجها رغبة فيها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والأصل فيه قول اللّه تعالى فيمن طلق الثالثة: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، ولا خلاف فيه.
وقلنا: ويجامعها في فرجها لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال للتي طلقها رفاعة ثلاثاً: <أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك>، يعني الذي تزوج بها بعد رفاعة.
وروى نحوه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن عليه السلام.
وقلنا: /11/ إذا تزوجها رغبة فيها لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لعن المحلِل والمحلَل له، ويجب أن يكون المراد إذا عقد عقداً غير صحيح للتحلل، وفي هذا فساد قول من قال: إنَّه إن وطأها في عقد نكاح فاسد، حلت للزوج الأول.
مسألة [في نكاح أهل الذمة]
قال: ولا يحل للمسلم(2) نكاح الذمية، ولا للذمي نكاح المسلمة.
نص في (الأحكام) (3) على تحريم نكاح الذميات على المسلمين، ونبه على ما ذكرناه من تحريم نكاح المسلمة على الذمي.
فأما تحريم نكاح المسلمة على الذمي، فهو مما لا خلاف فيه بين المسلمين، فلا وجه للإستقصاء فيه.
وأما تحريم الذميات على المسلمين، فهو قول القاسم، والناصر عليهما السلام، واختلفت الرواية في ذلك عن زيد بن علي عليهما السلام، وحكاه أبو العباس الحسني(4)، عن محمد بن عبدالله عليهما السلام، وعن ابن عمر في مسائل الخلاف.
والذي يدل على صحة ما يذهب(5) إليه الهادي عليه السلام من تحريمهن قول اللّه سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ..} الآية، فحرم سبحانه علينا نكاح المشركات، وإنكاح المشركين.
__________
(1) انظر الأحكام 1/365.
(2) في (أ): ويحل للرجل المسلم.
(3) انظر الأحكام 1/381 ـ 389.
(4) في (أ): رحمه الله.
(5) في (أ): ذهب.(51/11)
فإن قيل: فظاهر القرآن إنما أوجب النهي عن نكاحهن، فمن أين لكم أن النكاح إذا وقع(1) منهياً عنه، فهو غير صحيح؟
قيل له: هذا يفسد من وجهين:
أحدهما ـ أن الأظهر عند أصحابنا أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، وأنه لا يقع موقع الصحيح، فعلى هذا الوجه يسقط هذا السؤال، ويوضح هذه الطريقة ما عرف من أحوال الصحابة والتابعين ومَن بعدهم إلى يومنا هذا أنهم كانوا يفزعون لإفساد العقود والعبادات بوقوعها على وجه قد نُهي عنه، كما روي ذلك في الربا، وبيع الغرر، ونكاح المحِرم، والإغتسال بما قد بيل فيه.
والوجه الثاني ـ لا خلاف في أن وقوع المنهي عنه إذا كان على وجه أخل بشرط جعله الشرع شرطاً في صحة ذلك الأمر أنَّه لا يقع موقع الصحيح، والآية قد دلت على أن إيمانها شرط في صحة نكاح المسلم إياها، بقوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمِشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، فنبه سبحانه على أن الإيمان شرط في صحة نكاحهن، فإذا لم يحصل الشرط يجب أن يقع فاسداً.
فإن قيل: فهذا وارد في المشركات فمن أين لكم أن حكم الذميات حكمهن؟
__________
(1) في (ب): إذا وقع وإن وقع منهي عنه.(51/12)
قيل له: اسم الشرك لا يستعمل في الشرع على ما تفيده اللغة، لأن ذلك لو كان كذلك، لجاز أن يقال للمؤمن أنَّه مشرك إذا أشرك غيره في سلعة أو عمل أو نحوهما، ولَمَّا لم يجز ذلك، عُلم أنَّه قد جعل في الشرع اسماً لكل من جحد النبؤة، فكل من كان كذلك فاسم الشرك يتناوله بإطلاق الشرع، على أن اللّه تعالى قد وصفهم بأنهم مشركون بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُوْنِ اللهِ} على أنَّه لا خلاف في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً} أنَّه ليس المراد به مقصوراً على أن لا يثبتن لله سبحانه شريكاً، بل كان المراد أن يؤمِنَّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبجميع ما جاء به، فبان أن الجحد به وبما جاء به من الشرك، على أنَّه لا خلاف بين المسلمين أنا لو تمكنا من بلاد الروم لقتلناهم لعموم قوله: ؟{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ}، مع كونهم نصارى كما نقتل أهل الأوثان، فبان أن اسم الشرك يتناولهم، على أن الدلالة لو رتبت في وثنية تهودت، لسقط هذا الإعتراض، لأن اللّه سبحانه قال: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وهذه مشركة لم تؤمن، بل تهودت، فالتحريم باق على حاله، وإذا ثبت ذلك في اليهودية التي كانت من قبل وثنية فلم يفرق أحد من المسلمين بينها وبين التي لم تزل يهودية.
ويدل على ذلك ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا ابن اليمان، قال: حدثنا(1) /12/ بن شجاع، قال: حدثنا معلى(2) بن عيسى بن يونس، عن أبي بكر، عن عبدالله بن أبي مريم، عن علي بن أبي طلحة، عن كعب بن مالك أنَّه أراد أن يتزوج يهودية، أو نصرانية، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: <إنها لا تُحصنك>.
__________
(1) في (أ): محمد بن شجاع.
(2) في (أ): يعلى عن عيسى بن يونس.(51/13)
وروى أبو العابس الحسني(1) في (النصوص) بإسناده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى كعب بن مالك، وفي بعض الأخبار<دع فإنها لاتحصنك>. فليس يخلو المراد بالإحصان من أحد أمرين، إما أن يكون الإحصان الذي يستحق الزاني معه الرجم، أو إحصان العفاف، ولا يجوز أن يكون [المراد به] (2) الإحصان الذي يستحق معه الرجم، لأن القول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج مخرج التنفير عن هذا النكاح والتزهيد، ولا يجوز أن يزهد الإنسان في فعل إذا فعله كان معه أبعد من استحقاق القتل، لأن التنفير بمثله لا يصح من عاقل، فثبت أن [ليس](3) المراد به لا تكسبك العفاف؛ لأن المسلمة والكتابية في هذا سواء، فلم يبق إلاَّ أن يكون المراد [به] (4) لا تبقيك على العفاف، ولا يجوز أن يكون فعل من الأفعال يمنع بقاء فاعله على العفاف إلاَّ إذا كان محرماً، فثبت بذلك تحريم نكاحهن على المسلمين، على أن الدلالة عندنا قد دلت على أن أهل الذمة يكون لهم الإحصان الذي يستحق معه الرجم، فلو كان المراد أيضاً ذلك(5) الإحصان، لكان يفيد أن النكاح [أيضاً] (6) لا يصح؛ لأن كعباً كان قد حصل له جميع الشرائط الموجبة للإحصان من الإسلام والبلوغ والعقل، ولا يجوز أن يكون نفى إلاَّ النكاح لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <إنها لاتحصنك> يفيد أن النكاح بينك وبينها لا يصح، إذ لا يصح حمله علىأن الإحصان يمنع منه كونها من أهل الذمة؛ لقيام الدلالة على خلافه، ويمكن أن يستدل بقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَولاً أَنْ يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتُ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، فشرط الإيمان في الحرائر والمملوكات، فثبت أنَّه شرط في صحة نكاحنا، ومما يمكن
__________
(1) في (أ): رحمه الله.
(2) سقط من (أ).
(3) ما بين المعكوفين سقط من (أ) و (ب): فظنن عليه في هامش (ب).
(4) سقط من (أ).
(5) في (أ) بذلك.
(6) سقط من (ب).(51/14)
أن يعتمد عليه في هذا الباب قوله عزَّ وجل: {الْخَبِيْثَاتُ لِلْخَبِيْثِيْنَ وَالْخَبِيْثُونَ لِلْخَبِيْثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِيْنَ وَالْطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} فجعل جنس الخبيثين والخبيثات بعضهم لبعض، وجعل جنس الطيبين والطيبات بعضهم لبعض، فدل ذلك على ما قلناه.
فإن استدلوا بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
قيل له: المراد به اللواتي أسلمن والذين أسلموا منهم.
فإن قيل: كيف ينطلق عليهم سمة أهل الكتاب بعد الإسلام؟
قيل له: لا يمتنع ذلك، وقد قال اللّه تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُّؤْمِنُ بِاللهِ} فأجرى سبحانه اسم أهل الكتاب مع الإيمان والخشوع عليهم، وقال سبحانه: [{وَلَو آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ..} الآية، وقال أيضاً:] (1) {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوا..} إلى قوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيْرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} فجعل منهم مؤمنين وجعل منهم أمة مقتصدة.
فإن قيل: هذا وإن ثبت في بعض المواضع، فليس هو الظاهر في الشرع، فمن أين لكم أن المراد في هذه الآية ما ذكرتم؟
قيل له: يدل على ذلك أمران ـ /13/ أحدهما: ترتيب(2) الآية على وجه يدل عليه.
والثاني الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(2) في (أ): ترتب.(51/15)