فكان في ذلك تنبيه على طريق الاستدلال به. وروى هناد، حدثنا وكيع، عن سفيان بن منصور، عن الحكم، عن علي عليه السلام في رجل نذر أن يذبح ابنه قال عليه بدنة. فدلت هذه الأخبار على أن الصحابة أجمعت على أن هذا نذر يتعلق به الحكم، وأنه ليس بهدر، ثمَّ حصل الإجماع بعدهم على أن لا حكم إلاَّ ما /277/ ذهبنا إليه؛ لأن الناس فيه على أحد قولين: إما القول بأنه هدر لا حكم له، وأما القول بإيجاب الذبح. فأما ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله: ((عليه بدنة)). وما روي عن ابن عمر، وأحد الروايتين عن ابن عباس من قولهما : ((عليه الجزور))، فيجوز أن يكون ذلك على الاستحباب في الزائد على الشاة، ألا ترى أنا نستحب لكل من لزمه دم أن يجعله جزوراً، وإن قلنا إن الشاة تجزي؟
وروى هناد، عن ابن عباس ـ بأسانيد ـ من طرق شتى إيجاب الكبش. وروى نحو قولنا عن مسروق، وأبي حنيفة، ويحيى بن أبي زائد، وروى عن إبراهيم ينحر بدنة، وعن عطاء فيمن حلف لينحرن نفسه ينحر بدنة، فإذا ثبت ذلك في قوله لله على أن أذبح ابني، ثبت في قوله: عليَّ أن أذبح نفسي، أو أخي؛ لأنَّه علق الذبح بمن لا يصح ذبحه، ولا بيعه، وكذلك المكاتب، وأم الولد، للعلة الَّتِي ذكرناها. فأما إذا قال علي لله أن أذبح عبدي، أو أمتي، فإنما أوجبنا عليه [أن يجعل] (1) أثمانهما في الذبائح؛ لأن البيع يصح فيهما، ولما صح أن يقول القائل إذا باع عبده، أو فرسه، فاشترى ذبائح بثمنهما، أنى جعلتهما ذبائح، وجرى ذلك القول مجرى قوله إني صرفت ثمنهما في ذبائح، كان قوله عليَّ أن أذبحهما جارياً مجرى قوله عليَّ أن أجعل ثمنهما ذبائح، فلذلك قلنا: إنه يبيع العبد والأمة والفرس، ويشتري بأثمانهما(2) ذبائح. وقلنا: إن حكم الفرس في ذلك حكم العبد والأمة لوجهين:
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ بأثمانهما في (أ) و (ب): وما أثبتناه ظنن عليه في الهامش.(50/7)


[الأول] أنَّه عنده عليه السلام لا يؤكل لحمه، فجرى مجرى العبد والأمة في أنَّه لا يهدي به.
والثاني أن من يرى أكل لحمه ـ أيضاً ـ لا يجعله مما يهدي، أو يضحى به.
مسألة [فيمن جعل ماله في سبيل الله أو هدايا إلى بيت الله، كم يصرف منه]
قال: فإذا(1) قال جعلت مالي في سبيل الله، أو هدايا إلى بيت الله، وجب عليه تصريف ثلث ماله في الوجه الذي ذكره له، وله أن يمسك ثلثيه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2)، ومروي فيه عن القاسم عليه السلام.
ووجهه أنَّه لا خلاف في أن النذر لا يتعلق بما لا يكون قربة، فقد ثبت أن إخراج الرجل جميع ما يملكه لا يكون قربة، بل يكون محظوراً؛ لأنا نعلم من دين المسلمين أنهم لا يختلفون فيمن تصدق بجميع ماله حتَّى لا يتبقى ما يكسو به عورته، ويسد جوعته، ويكفي عيلته، أنَّه لا يحمد على ذلك، بل يذم، يُعرف ذلك من حال العقلاء أجمع، وقد نبه الله تعالى نبيه على الانفاق من غير إسراف، ونهاه عن الإقتار، وقد مدح [الله] (3) سبحانه من وقف بين ذلك فقال: {وَالَّذِيْنَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ولا يجوز أن يمدح الله سبحانه أحداً على الانصراف عن فعل القرب، فعلم أن الإفراط في إخراج ما يملك لا يكون قربة.
__________
(1) ـ في (ب): فإن.
(2) ـ انظر الأحكام 1/332 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ سقط من (ب).(50/8)


وروى أبو بكر الجصاص ـ بإسناده ـ عن جابر قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل بمثل البيضة ذهباً، فقال يا رسول الله، أصبت هذا من معدن، فخذه، فهو صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ أتاه من قِبَل يمينه، فقال: مثل ذلك، فأعرض عنه، ثُمَّ أتاه مرة، فأخذها صلى الله عليه وآله وسلم فخذف بها، ثُمَّ قال صلى الله عليه وآله وسلم يأتي أحدكم بما يملك، فيقول: هذا صدقة، ثُمَّ يقعد يتكفف الناس خير صدقة ما كان عن طهر عني، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم رده علمه بعد ما جعله صدقة فبان أن ذلك لم يكن قربة، وإذا لم يكن قربة للوجوه الَّتِي ذكرناها، لم يتعلق النذر بجميع ما يملكه، ويتعلق ببعضه، فوجب أن ينصرف إلى الثلث مثل الوصية، وقياساً عليها فالعلة(1) أنَّه أمر إذا علق بجميع المال /278/ تعلق ببعضه، فوجب أن ينصرف إلى الثلث، أو يقال: إنَّه إخراج مال موضوعة للقرب، ولا يلزم إلاَّ بإلزام رب المال، فوجب أن يقصر على الثلث، دليله الوصية، وليس لهم أن يمتنعوا من الوصف للأصل بأنه موضوع للقرب، لجواز الوصية وإن لم يتعلق بها القربة، وذلك أنا قلنا: إن موضوعه للقرب، وإن لم نقل إنَّه قربة، وموضوع الوصايا للقرب، وإن جاز فيها ما ليس بقربة.
__________
(1) ـ في (ب): والعلة.(50/9)


فإن قاسوه على الإقرار، كان ذلك شاهداً لنا؛ لأن الإقرار لما لم يجب انصرافه عن الكل إلى البعض، لم يجب تعلقه بالثلث، وكذلك لما لم يكن موضوعه موضوع القرب، لم يتعلق بالثلث، على أن الإقرار ليس هو ابتداء إيجاب، فلم يجب أن يكون حكم النذر حكمه، ألا ترى أن الإقرار إنما هو إخبار عن وجوب(1) متقدم، والنذر إيجاب مبتدأ وهو بالوصية أشبه منه بالإقرار، على أنَّه قد حكي عن أبي حنيفة أنَّه لو(2) قال: مالي في المساكين صدقة، انصرف ذلك إلى ماله الذي يجب فيه الزكاة، وقد حكى عنه أنَّه يتصدق بماله كله، ويمسك منه مقدار قوته، فإذا أفاد مالاً تصدق بمثل ما كان أمسك، وأي ذلك صح، ثبت تعليلنا أنَّه أمرء ذا علق بجميع المال، تعلق ببعضه(3) فوجب أن ينصرف إلى الثلث؛ قياساً على الوصية.
مسألة [فيمن نذر أن يهدي أخاه أو ولده أو رجلاً أجنبياً إلى بيت الله]
قال: ولو أن رجلاً نذر أن يهدي ولده، أو أخاه، أو أباه، أو رجلاً أجنبياً، إلى بيت الله سبحانه، وجب عليه حمله إليه حتَّى يغرم عنه، ويحج به، ويرده إلى أهله، فإن قال: أهدي عبدي، أو أمتي، أو فرسي، باعه، واشترى بثمنه هدايا يتصدق بها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4). إذا قال الرجل إني(5) أهدي فلاناً لرجل حر فلا شيء فيه عند أبي حنيفة، والشافعي، وفي قول مالك أنَّه يهدي عنه هدايا، وحكى ذلك عن الزهري، وحكي عن الحسن بن صالح مثل قولنا.
ووجه ما ذهبنا إليه أن قول الرجل(6) أهديت كذا إلى كذا يقتضي إيصال الْمَهدي إلى الْمُهدى إليه من جهة اللغة، فلما كان ذلك كذلك، كان قول القائل عليَّ أن أهدي فلاناً إلى بيت الله يقتضي إيجاب إيصاله إلى يبت الله تعالى، وذلك مما يتعلق به القربة، لا خلاف فيه.
__________
(1) ـ في (ب): حق.
(2) ـ في (ب): إن.
(3) ـ في (أ): ببعض.
(4) ـ انظر الأحكام 1/332، 333.
(5) ـ في (ب): أنا.
(6) ـ في (ب): القائل.(50/10)


وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((من جهز حاجاً، أو خلفه في أهله، كان له أجر مثله)) فلما كان ذلك على ما بيناه، لزمه الوفاء به، ولا وجه لأن نجعل هذه اللفظة هدراً؛ لأنه قد أفاد معنى تتعلق القربة به، دليله سائر النذور، ولا وجه أيضاً لحمله على الهدي عنه؛ لأن اللفظ لا يقضي به، وإنَّما يقتضي حكماً في نفس من قيل فيه إنَّه يهدى، وليس قوله أنَّه يحج به على إيجاب ذلك فقط، إذ الواجب عليه أن يوصله إلى البيت الحرام بحج أو عمرة، على ما بيناه في قول القائل عليَّ المشي إلى بيت الله، وإنَّما ذكر الحج؛ لأنَّه المقصود في الأغلب، فأما إذا قال ذلك في الفرس والعبد وما يملكه، فوجه قولنا أنه يبيعها، ويشتري بثمنها هدايا، ويتصدق بها أن العرف في قول القائل: جعلت فرسي، وعبدي، هدايا: أنه يفيد أنَّه جعل ثمنه هدايا على ما بيناه في قول القائل: عليَّ أن أذبح عبدي، أو فرسي، أو أمتي، فصح ما قلناه.
تم الجزء الثاني من شرح التجريد بحمد الله، ومنه وإعانته
[وذلك من ستة أجزاء والحمد لله رب /279/ العالمين] (1)
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في (أ).(50/11)

75 / 142
ع
En
A+
A-