وأخبرنا علي بن إسماعيل، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتته امرأة فقالت: إني جعلت على نفسي مشياً(1) إلى بيت الله الحرام، وإني لست أطيق ذلك، قال: تجدين ما تستخصين به؟ قالت: نعم قال: فامشي طاقتك، واركبي إذا(2) لم تطيقي، واهدي لذلك هدياً)) ففي هذا أنَّه إذا جعل على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الإحرام بحجة(3) أو عمرة؛ لأنَّه لو لم يلزمه ذلك، لكان صلى الله عليه وآله وسلم يسألها هل نؤت أمراً(4) سوى /275/ المشي، فلما لم يسألها عن ذلك، وأمرها أن تركب، وتهدي، علم أن اللفظ يقتضي ما ذكرناه، وكذلك قول علي عليه السلام: إذا جعل عليه المشي، فلم يستطع، فليركب، وليهدِ، يدل على ذلك؛ لأنَّه لم يشترط أن يكون جعله المشي عليه يتضمنه الإحرام، ولا خلاف أن المشي إذا لم يتضمن الإحرام لا يلزمه الوفاء به، فبان أن من جعل على نفسه المشي إلى بيت الله، فقد أوجب على نفسه أن يحرم، وأيضاً فقد ثبت أن الأأيمان والنذور طريق الإيجاب بها العرف، وقد صار العرف في أن من أوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام يكون موجباً للإحرام، فبان بما بيناه أنَّه يلزمه الخروج متوجهاً لما ألزم نفسه.
__________
(1) ـ في (ب): المشي.
(2) ـ في (أ): إن.
(3) ـ في (ب): بحج.
(4) ـ في (ب): شيئاً.(50/2)


ووجه إيجاب الدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألزمه، وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام فإنما(1) ألزمه ذلك؛ لأن المشي في الحج والعمرة قربة، فتعلق به النذر، فلما لم يمكنه [في النذر] (2) الوفاء به، لزمه جبره، والذي يدل على أن المشي في الحج والعمرة قربة قوله صلى الله عليه آله وسلم في أخت عقبة ((لتركب، ولتهدي)) فجعل الهدي عوضاً من المشي، فدل ذلك على أن القربة تعلقت بالمشي.
وأيضاً روي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنَّه قال: لبنيه اخرجوا إلى مكة حاجين مشاة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن للحاج الماشي بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم. قلت: يا رسول الله، وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة مائة ألف حسنة)). وروى هناد بإسناده أن الحسن بن علي عليهم السلام كان يمشي والنحايب تقاد معه.
وروى بإسناده أن الحسين بن علي عليهما السلام كان يمشي في الحج ودوابه تقاد. روى هناد بإسناده إلى ابن عباس أنَّه قال بعد ما ذهب بصره: ما آسى على شيء من الدنيا إلا على شيء واحد: أن أكون مشيت إلى بيت الله الحرام، فإني سمعت الله تعالى يقول: {يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر}.
__________
(1) ـ في (ب): وإنما.
(2) ـ سقط من (ب).(50/3)


ووجه استحبابنا إن كان الركوب أكثر من المشي أن يهدي بدنة،وإن كان مثله أن يهدي بقرة؛ لأن دم لما كان جبراً للمشي، وكان ما يجب أن يجبر أكثر، أحببنا أن يكون الجبر أعظم؛ لأن هذا هو الأصل في أعمال الحج والعمرة الَّتِي تجبر، ألا ترى أن المفسد لإحرامه بالوطء يلزمه بدنة، ومن قتل من الصيد ما هو أعظم، كان جزاؤه أعظم، وكذلك سائر ما يجبر منه. وقلنا: إن الشاة تجزي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرها أن تركب، وتهدي، ولم يراعِ كثرة الركوب وقلته، وما روي عن أمير المؤمنين من قوله: فليهد بدنة، محمول على الاستحباب فيمن كان مشيه أقل؛ إذ لا أحد قال في ذلك بالإيجاب(1)، وكذلك حديث زيد بن علي عليهم السلام يدل على ذلك، وبه قال أبو حنيفة.
مسألة [في نية من نذر على نفسه المشي إلى بيت الله]
قال القاسم عليه السلام فيمن قال لله على المشي إلى بيت الله الحرام له نيته إن نوى حجاً أو عمرة، فإن لم يكن له نية. أجزته عمرة واحدة. وهذا منصوص عليه في باب الأيمان من (مسائل النيروسي). وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
__________
(1) ـ في (أ): بالاستحباب.(50/4)


ووجهه ما قد بيناه أنَّه إذا قال على المشي إلى بيت الله الحرام فقد تضمن إيجابه الإحرام بحجة أوعمرة، فإن كانت له نية في إحداهما، فكان اللفظ أوجب إحراماً على صفة، فإن /276/ لم تكن له نية، فهو بمنزلة من أوجب إحراماً بحجة أو عمرة؛ لأن اللفظ أوجبهما على التخيير، فله أن يأتي بأيهما شياء لا يجابه إياهما على نفسه على طريق التخيير، يبين ذلك ويكشفه أن ما أوجبه الله علينا من طريق التخيير نحو الكفارات الثلاث في كفارة اليمين، ونحو ما أوجب سبحانه في جزاء الصيد، قلنا(1): أن يختار واحداً منهما، فكذلك ما نوجبه من طريق النذر على أنفسنا؛ إذ ليس إيجابنا بأوكد من إيجاباً لله تعالى، ولا(2) فرق بين أن يوجب لفظاً أو معنى؛ إذ حكم الإيجاب لا يتغير في ذلك، فصح ماذهبنا إليه.
مسألة [فيمن جعل على نفسه ذبحها أو ذبح ولده أو أخيه أو عبده أو أمته]
قال: ولو أن رجلاً قال لله علي أن أذبح نفسي، أو ولدي، أو أخي بمكة، وجب عليه ذبح كبش فيها، وإن قال: بمنى ذبحه بمنى. وإن قال: علي أن أذبح عبدي، أو أمتي، فعليه أن يبيعه ويهدي بثمنه ذبائح في الموضع الذي ذكره من مكة أو منى. وكذلك إن قال: علي أن أذبح فرسي، باعه، وأهدى بثمنه ذبائح، أو قال: أذبح أم ولدي، أو مكاتبي، فالقول فيه كالقول إذا قال: أذبح نفسي، أو أخي. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (3).
والأصل فيه أن مذهب يحيى عليه السلام أن شرائع الأنبياء عليهم السلام الماضين يلزمنا، ما لم يثبت نسخها، وقد ثبت أن الله تعالى أمر نبيه إبراهيم عليه السلام أن يفتدي ابنه إسماعيل صلوات الله عليهما بذبح الكبش بدلاً له، قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} فثبت أن افتداء الابن من الذبح شرع له، ولم يثبت نسخه، فوجب أن يلزمنا ذلك.
__________
(1) ـ في (ب): فلنا أن نختار واحداً منها.
(2) ـ في (ب): فلا.
(3) ـ انظر الأحكام 1/331 وهو بلفظ قريب.(50/5)


فإن قيل: كيف يصح لكم الاستدلال بهذا، وأنتم تقولون أن إبراهيم عليه السلام كان أمر بمقدمات الذبح، ولم يكن أُمر بالذبح؛ لامتناع نسخ الشيء قبل وقت فعله عندكم، على أنَّه إن صح أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أُمر بالذبح ومقدماته، فشيء من ذلك لا يثبت الآن؛ لأنَّه لا خلاف أن من قال عليَّ(1) لله أن أذبح ابني، لا يلزمه مقدمات الذبح، ولا الذبح، فكيف يستمر هذا؟
قيل له: لسنا نعلم عن أئمتنا عليهم السلام تفاصيل ما سألت عنه من تكليف إبراهيم صلوات الله عليه وآله وسلم، وإن كان الأصح عندنا وعند شيوخنا المتكلمين ما ذكرته في سؤالك من أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان مأموراً بمقدمات الذبح، إلاَّ أن استدلالنا بذلك على تفاصيل تلك الأحوال.
ووجه الاستدلال منه أنَّه قد ثبت أن إبراهيم عليه السلام أمر بالافتداء بذبح الكبش عن ابنه إسماعيل عليهما السلام، فصار الذبح الكبش مسرح في الإفتداء الذبح الابن في شريعته، ولم يثبت نسخه، فيجب أن يكون لنا مسرح في أن نفتدي ذبح الابن بذبح الكبش، وإذا ثبت ذلك، فلم يثبته أحد إلاَّ على الوجه الذي ذهبنا إليه، فصح ذلك، وروى هناد، حدثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن عطاء، قال: نذر رجل أن ينحر ابنه، فأتى ابن عباس، فسأله، فأمره أن يفديه بكبش، ثُمَّ قرأ ابن عباس هذه الآية: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظَيْمٍ}.
__________
(1) ـ في (ب): لله عليَّ.(50/6)

74 / 142
ع
En
A+
A-