فإن قاسوه على صوم شهر رمضان بأنه لا يجزي قبل وقته، كان الوصف غير مسلم لهم؛ لأن المتمتع إذا أحرم، كان ذلك وقتاً عندنا للصيام، ويعضد قياسنا استناده إلى قول علي عليه السلام، ومعه قول ابن عمر، ولا مخالف في الصحابة، وأنه مبادرة إلى الحسني ومسارعة إليها.
مسألة [في المحرم يصوم بدلاً عن الهدي تم يجده]
قال: فإن صامها ثُمَّ وجد السبيل إلى الهدي، أهدى. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1)، ونص فيه أنَّه يلزمه إن وجده يوماً من أيام النحر، فأما إن وجده بعد أيام النحر، فلا خلاف أنَّه لا يلزمه الهدي، وأن الصوم يجزيه. قال أبو حنيفة: يلزمه الهدي إن وجده قبل أيام النحر قبل التحليل.
وقال الشافعي: لا يلزمه بحال. وأصحابنا لم يشترطوا التحليل، وإنَّما أوجبوه بوجوده في يوم من أيام النحر.
ووجهه أنَّه وجد المبدل قبل إتمام البدَل مع بقاء حكم الأصل، وهو بقاء أحكام الحج من الرمي، وطواف الزيارة، إن كان أخره، فكان كمن وجد الماء وهو في التيمم، أو في الصلاة، أنَّه لا يجوز له البناء عليه كما لا يجوز له الابتداء، ولا يجب أن يكون سبيله سبيل من وجد الهدي بعد أيام النحر بوجهين: أحدهما ما ذكرناه. والثاني : إن الذبح الذي يكون بعد أيام النحر يكون عندنا قضاءً لا أداءً، ألا ترى أن من أخر دم المتعة إلى أن تفوت أيام الذبح، فإنا نوجب عليه دماً آخر للكفارة؟ فإذا ثبت ذلك، فالواجد له بعد أيام الذبح غير واجد للمبدل حكماً، فلم يجب أن نبطل به حكم الصوم.
وهذه الطريقة قد استقصيناها بأكثر من هذا في كتاب الصوم في مسألة المظاهر إذا وجد الرقبة، وقد صام بعض الشهرين/269/.
مسألة [في وقت صيام السبعة الأيام المبدلة عن الهدي]
__________
(1) ـ انظر الأ؛كام 1/318 وهو بلفظ قريب.(49/7)
قال القاسم عليه السلام: فإن صام الأيام السبعة في منصرفه إلى أهله، أجزأه. قال: وإذا صامها في أهله، وصلها، ولم يفرقها. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي) ومروي عنه في (الأحكام) (1). أما جواز صيامها في (2) قبل انصرافه إلى أهله، فهو قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.
ووجهه أن الله تعالى قال: {وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ} بعد قوله: {ثَلاثَةُ أَيَّامٍ فِيْ الْحَجِّ} فكان ظاهره يقتضي الرجوع من الحج على أنَّه لا ذكر في الآية للأهل فوجب أن يكون الحكم متعلق بأول ما سمى رجوعاً، وهو الرجوع من الحج.
فإن قيل: لو كان كذلك، لوجب أن يكون هذا متعلقاً بالرجوع من عرفة.
قيل له: لا خلاف أنَّه غير مراد، على أن ذكر عرفة لم يجر في أول الكلام، وإنما جرى ذكر الحج جملة، فيجب أن يتعلق الحكم بأول ما يسمى رجوعاً من الحج، وذلك لا يكون إلاَّ بعد الفراغ منه، وهو قياس على صوم الأيام الثلاثة، أو على سائر الصيام في أنَّه لا يتخصص بمكان دون مكان، ولا خلاف أنَّه يصح فعلها إذا رجع إلى أهله، فكذلك قبل ذلك، والمعنى أنَّه فعلها بعد الفراغ من الحج.
فإن قيل: فقد رويتم عن علي عليه السلام أنَّه قال: وسبعة إذا رجع إلى أهله.
قيل له: قد روى ذلك، وقد روي إذا رجع مطلقاً، فيجوز كلا الأمرين. وكذلك إن قالوا: إن ذلك قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: لا يمتنع من جواز ذلك.
فإن قيل: فما الفائدة في قوله عليه السلام إذا رجع إلى أهله؟
قيل له: تكون الفائدة أن يعلم أن وجوبه موسع، وله تأخيره إلى حين الإنصراف إلى الأهل. وقوله أنَّه يصلها، ولا يفرقها، على الاستحباب؛ إذ لا وجه لإيجاب التتابع فيه.
ووجه الاستحباب ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وابن عمر، الصوم في الأيام الثلاثة على جهة التتابع، فاستحب أن تكون السبعة مثلها.
مسألة [في المحصر إذا لم يجد الهدي]
__________
(1) ـ في الأحكام 1/319 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (ب): بعد.(49/8)
قال: ولو أن محصراً لم يجد الهدي، صام ثلاثة أيام قبل الحج، وسبعة بعد أيام التشريق. وهو منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2). قال في (الأحكام): ثُمَّ يُحل، يعني بعد استكمال صيام عشرة أيام. قال أبو حنيفة: لا يجزيه الصيام، ويبقى حراماً إلى أن يجد ويطوف ويسعى ويحل، وأحد قولي الشافعي أنه يجزيه صيام عشرة أيام إذا لم يجد الهدي، وهي إحدى الروايتين عن أبي يوسف.
ووجهه: أنَّه دم وجب لاستباحة محظور، فوجب أن يكون للعدول عنه إلى الصوم فيه مسرح؛ قياساً على دم الحلق، واللبس، والطيب، و ـ أيضاً ـ هو دم وجب للتَرفُّه، فوجب أن يجوز العدول عنه إلى الصوم عند العجز، دليله دليل التمتع، ثُمَّ أصول الجزاءات في الحج تشهد لنا؛ لأن للصوم فيها مساغاً، إما على طريق التخيير، وإما على طريق الترتيب.
فإن قيل: فإن الله تعالى ذكر الهدي للمحصر، ولم يذكر الصيام.
قيل له: لهذا احتجنا إلى القياس فيه.
فإن قيل: فالقياس في مثله لا يسوغ؛ لأنَّه رفع النص في الموضع الذي يقع العجز فيه، أو لأنَّه زيادة في النص، وهو نسخ، أو لأنه ابتداء شرع.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/295 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 105 وهو بلفظ قريب.(49/9)
قيل له: عندنا أن القياس فيه جائز، وقولكم أنَّه رفع النص في موضع من المواضع، فبكذا يكون التخصيص، ولا خلاف أن تخصيص(1) القرآن بالقياس جائز بيننا وبين /270/ المخالف في هذه المسألة، وإنَّما يبطل القياس إذا كان رافعاً للنص جملة، وقولهم أنَّه زيادة في النص لا معنى له؛ لأن هذا القبيل من الزيادة عندنا يجوز بيانه(2) بالقياس، ولا يكون نسخاً. وقولهم: إن هذا شرع مبتدأ لا معنى له؛ لأنا لم نُشرع ابتداء، وإنَّما قسنا موضعاً على موضع؛ ولأن صح أن يقال في مثله أنه ابتداء شرع، لصح مثله في جميع القياس، وهذا يؤدي إلى إبطال القياس جملة؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا جَعَلَ عَلِيْكُمْ فِيْ الدِّيْنِ مِن حَرَجٍ} ومذاهبهم تؤدي إلى ذلك، فوجب أن يكون ما قلناه أولى. وقال: ثلاثة في الحج، وسبعة بعده، قياساً على صوم التمتع.
مسألة [في المتمتع يفوته وقت صيام الثلاثة الأيام؟]
قال القاسم عليه السلام: وإذا فات المتمتع صيام ثلاثة أيام قبل الحج، صامها أيام منى. قال: فإن فاته صومها، فعليه دم. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
ووجه ما ذهبنا إليه من أنَّه يصوم أيام منى إن لم يكن صامها قبلها: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا يحيى بن سلام، حدثنا شعبة، عن ابن أبي ليلى، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي، ولم يصم في العشر، أنَّه يصوم أيام التشريق. وقد قال الله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ فِيْ الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ}، وهذه الأيام من أيام الحج لبقاء أعمال الحج فيها.
__________
(1) ـ في (أ): تخصص.
(2) ـ في (أ): اتيانه.(49/10)
وروى أبو(1) جعفر ـ بإسناده ـ عن عائشة، وابن عمر، أنهما كانا يرخصان للمتمتع إذا لم يجد هدياً، ولم يكن صام قبل عرفة، أن يصوم أيام التشريق. وقد مضى عن علي عليه السلام أنَّه قال: ((فإن فاتت(2) تسحر ليلة الحصبة وصام ثلاثة أيام))، فصار كالإجماع من الصحابة أنَّه يجوز إذا فات صيام الثلاثة قبل الحج أن يصومها بعد النحر.
فإن قيل: فقد رويت أخبار كثيرة في النَّهي عن الصوم في أيام التشريق.
قيل له: نخص تلك الأخبار بخبرنا؛ لأنَّه أخص، ومن مذهبنا بناء العام على الخاص، ولا خلاف في جوازها قبل يوم النحر، فكذلك أيام التشريق، والمعنى أنَّها وقت لبعض أعمال الحج.
ووجه قولنا إنَّه إذا فاته، فعليه دم، وفاقاً لأبي حنيفة، وخلافاً للشافعي، وهو أن الله تعالى أجاز العدول عن الدم إلى بدل منه ـ صيام ثلاثة أيام في الحج ـ فإذا فات البدل، بقي حكم المبدل على ما كان عليه، مثل كفارة القتل؛ لأنه العجز إذا وقع عن الصيام، بقي في الذمة وجوب العتق، ولا خلاف أن صيام السبعة لا يجزي قبل زمان الفراغ من الحج، فوجب أن لا يجوز صيام الثلاثة بعده؛ قياساً عليه، والمعنى أنَّه صوم مرتب على الحج، فوجب أن لا يصح فعله على خلاف ما رتب عليه، و ـ أيضاً ـ هو عبادة مؤقته مفعولة بدلاً عن أصل، فإذا فات، وجب أن لا يقضي، ويُرجع إلى الأصل، دليله الجمعة إذا فاتت، لم تقضَ ووجب الرجوع إلى الأصل الذي هو الطهر.
فإن قيل: لسنا نسلم أن الجمعة بدل من الظهر، بل هي أصل.
قيل له: هذا خلاف في العبارة: لأنا لا نريد أكثر من أنَّه إذا فعل الجمعة بشروطها، سقط الظهر، وأنه لا يسقط الظهر إلاَّ بفعلها، وعلتنا تترجح بالحظر، والاحتياط، وقياسنا في رد حكم(3) الثلاثة إلى السبعة أولى من قياسهم؛ لأنَّه رد الشيء إلى جنسه.
مسألة [في نتاج الهدي هل يلحق به؟]
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/243.
(2) ـ في (ب): فات.
(3) ـ في (أ): في حكم رد.(49/11)