رواه أبو داود في (السنن) يرفعه إلى أسامة بن زيد أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القرى في طلب مالٍ له، فكان يصوم الإثنين، والخميس، فقال له مولاه: لِمَ تصوم يوم الإثنين والخميس، وأنت شيخ كبير؟ قال: إن نبي اللّه كان يصوم الإثنين والخميس، فسئل عن ذلك فقال: ((إن أعمال الناس تعرض يوم الإثنين ويوم الخميس)).
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن المسيب، عن أبيه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يصوم الإثنين والخميس(1).
وروى هو ـ أيضاً ـ بإسناده عن خلاس، عن علي عليه السلام أنه كان يصوم الإثنين والخميس(2).
مسألة: [في الصوم والإفطار في السفر أيهما أفضل؟]
قال: والصيام في السفر أفضل من الإفطار لمن أطاقه، ويجوز الإفطار، وجواز الإفطار في السفر مع وجوب القصر.
قال القاسم عليه السلام: ما روي (( ليس من البر الصيام في السفر )) معناه التطوع.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام) (3).
وماحكيناه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، ومروي عنه في (الأحكام) (4).
والأصل فيه ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن علي بن شيبة(5)، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد، عن عبد الرحمن، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يصوم في السفر ويفطر(6).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/300 وإسناده: حدثنا حفص بن غياث، به.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/301 وإسناده: حدثنا أبو أسامة عن سعيد عن قتادة عن خلاس أن علياً كان يصوم.
(3) ـ انظر الأحكام 1/242 وأما ملازمة جواز الإفطار لوجوب القصر فنص عليه في الأحكام 1/245 بقوله: ((فإذا وجب القصر جاز الإفطار)).
(4) ـ انظر الأحكام 1/243 وهو بلفظ قريب.
(5) ـ في (أ): أبي شيبة.
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/69 وفيه عن عبد السلام منزلاً عن عبد الرحمن.(37/6)


وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالكاً أخبره عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: يا رسول اللّه، أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام. فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إن شئت فصم، وإن شئت فافطر، والفطر لمن /122/ شاء ذلك )) (1). فنبه بقوله: (( والفطر لمن شاء ذلك ))، أن الأصل فيه الصوم، وأن الفطر له إن شاء.
فدل الخبر على أن للمسافر أن يصوم، وأن الصوم أفضل؛ إذ قد نبه على أنه هو الأفضل(2).
وروي عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم فتح مكة تسع عشرة أو سبع عشرة من رمضان، فصام الصائمون، وأفطر المفطرون، فلم يعب هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء. وروي نحوه عن جابر.
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال: أخبرنا شعبة، عن منصور، قال: سمعت مجاهداً يحدث عن ابن عباس قال: لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مكة صام حتى أتى عسفان، ثم أتي بقدح من لبن فأفطر، قال ابن عباس: فمن شاء صام ومن شاء أفطر.
وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من مكة إلى حنين في اثنتي عشرة بقيت من رمضان، فصام طائفة من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأفطر الآخرون، فلم يعب ذلك. فأخبر(3) أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يعب على واحد من الفريقين(4).
فثبت بهذه الأخبار أن الصوم في السفر جائز، وإذا ثبت الجواز، ثبت أنه أفضل لما:
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/69.
(2) ـ في نسخة: هو الأصل.
(3) ـ في (أ): فأخبرنا.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/281 وإسناده حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي نضره، به.(37/7)


روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه لما سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الصوم في السفر قال: (( إنما هي رخصة من اللّه تعالى لعباده، فمن قبلها، فحسن جميل، ومن تركها، فلا جناح عليه )). وقد رواه الطحاوي بإسناده(1).
فلما أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الإفطار رخصة، ثبت أن العدول عنها أفضل؛ إذ ذلك حكم جميع الرخص، ما لم تؤد إلى الإضرار بالنفس.
وروى أبو جعفر بإسناده عن أنس أنه سئل عن الصوم في شهر رمضان في السفر. فقال: ((إن أفطرت، فرخصة، وإن صمت، فالصوم أفضل)) (2). وهو قياس على سائر الأيام التي لا يكون فيها الصيام؛ بعلة أنها أيام يجوز فيها الصوم والإفطار، ولا يكره فيها الصيام، فوجب أن يكون الصوم أفضل من الإفطار.
فإن قيل: روي عنه صلى(3) اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( ليس من البر الصيام في السفر )) . قيل له: ليس يمتنع أن يكون المراد به التطوع كما حكيناه عن القاسم عليه السلام، إذا كان يضر بجسمه، ويمنعه عما هو أولى منه. فقد روي ما يدل على ذلك:ـ
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/71، وإسناده: ربيع الجيزي، حدثنا أبو زرعة، حدثنا حيوة، حدثنا أبو الأسود أنه سمع عروة يحدث عن أبي مرواح عن حمزة.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/67 وإسناده حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا الحسن بن صالح، عن عاصم، به.
(3) ـ في (أ): عن النبي.(37/8)


أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظلل، فقال: (( ما هذا ))؟ فقالوا: صائم. فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ليس من البر الصيام في السفر )) (1). على أنا لا نمنع أن يكره الصيام في السفر في شهر رمضان إذا أضر ذلك بجسم الصائم، وخُشي أن يؤدي ذلك إلى الإخلال بسائر الواجبات المضيقة.
فإن قيل: روي أن /123/ قوماً صاموا في السفر حين أفطر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقال: ((أولئك هم العصاة)).
قيل له: هو محمول على أن القوم أضروا بذلك أجسادهم حتى قعدوا عما هو أضيق وجوباً منه.
فإن قيل: روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( إن اللّه تعالى وضع عن أمتي الصوم في السفر؛ وشطر الصلاة )).
قيل له: هو محمول على أن الموضوع عنهم تضييق وجوبه، بالأدلة التي ذكرناها.
وقلنا(2): إن وجوب القصر، وجواز الفطر معاً؛ إذ قد ثبت أنهما جميعاً حكم السفر، فإذا حصل الإنسان مسافراً، حصل الحكمان؛ ولأنه لا خلاف في هذه الجملة، وإنما الخلاف في حد السفر، وفي وجوب القصر، وفي جواز الإفطار، وقد مضى في الجميع ما يغني عن إعادته.
مسألة: [فيمن يدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر]
قال: وإن أدركه الصوم وهو مقيم فإنه يصوم ما أقام، ويفطر إن شاء إذا سافر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3)، وظاهره يقتضي أنه لا فصل بين أن يبتدئ السفر في شهر رمضان قبل الفجر أو بعده.
وقول أبي حنيفة، والشافعي: إنه يفطر إن خرج قبل الفجر، وإن خرج بعد الفجر صام، ولم يفطر.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/62.
(2) ـ في (أ): وقد قلنا.
(3) ـ انظر الأحكام 1/244 وهو بلفظ قريب.(37/9)


ودليلنا في ذلك قول اللّه تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} فمن حصل مسافراً، جاز له الإفطار؛ لأنه تعالى لم يستثن للسفر وقتاً من وقت، ولأن حمزة الأسلمي لما سأله عن الصوم في السفر، قال له: (( إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر ))، ولم يشترط صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يكون ابتدأه قبل الفجر، فاقتضى ظاهره جواز الإفطار لكل مسافر.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، فأوجب الصيام.
قيل له: قد استثنى المسافر بما عقبه من قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}، ومن خرج بعد الفجر فأفطر(1)، يكون مبطلاً للجزء الذي حصل صائماً فيه.
قيل له: المراد في هذا الموضع أن يكون الثواب، للأدلة التي تقدمت، وثوابه لا يبطل، وهو قياس على من خرج قبل الفجر؛ بعلة أنه حصل مسافراً في شهر رمضان، والسفر قياس [على] (2) المرض؛ بعلة أنه عذر في الإفطار، وفي أي وقت حصل، جاز الإفطار، وقياس على الحيض؛ بعلة أنه معنى لو حصل في أول جزء من النهار، جاز له الأكل، فكذلك إن حصل بعده.
فإن قيل: إذا أصبح في منزله، فقد وجب عليه الصيام وجوباً لا خيار له فيه، ثم حدثت حادثة باختيار منه، وهو السفر، فلو قلنا: إنه مخير فيه، لأدى إلى إبطال ما لا خيار فيه لأجل ما فيه الخيار.
قيل له: هذا منتقض بمن دخل عليه شهر رمضان، وهو مقيم، فإن الصوم قد وجب عليه وجوباً لا خيار له فيه، ومع ذلك له الإفطار إذا سافر.
فإن قيل: بدخول شهر رمضان لا يجب عليه الشهر كله.
قيل له: فكذلك بدخول أول جزء من اليوم لا يجب اليوم كله. وهذا ما لا فرق فيه.
مسألة: [في صيام الحائض، والنفساء، والحامل، والمرضع، والمستعطش، والهرم]
__________
(1) ـ في (أ): وأفطر.
(2) ـ سقط من (أ).(37/10)

7 / 142
ع
En
A+
A-