قيل له: ليست العلة فيما ذكرتم ما أشرتم إليه، بل العلة أنَّ الأذان والصلاة(1) والتعليم مما لا يصح فيه النيابة، ولا يقع عن الغير، فلم يجز أن يستحق الإنسان الأجرة على ما يفعله لنفسه، ألا ترى أن كثيراً من القرب لما صحت النيابة فيه، جاز أن يستحق عليه الأجرة، كنحو كتب المصاحف، وبناء المساجد، وحفر القبور، على أن قياسهم هذا يشهد لقياسنا، ألا ترى أنَّما ذكروه لما لم يصح النيابة فيه، لم يصح أن يُستأجر فيه من يفعله.
فإن قيل: فكيف تقولون أن الأذان لا تصح النيابة فيه، وعندكم أن أذان الواحد يكفي الجماعة؟
قيل له : لسنا نقول أنَّه يجزي على وجه النيابة، ولكن نقول: إن الأذان فرض من فروض الكفايات، فإذا قام به البعض، سقط عن البعض الباقين، لا على طريق النيابة، ألا ترى انه لا يجب للمؤذن أن يؤذن بأجرة؟ فبان أنَّه لا تصح النيابة فيه.
فإن قيل: فما تنكرون على من قال: إن الحج لا يصح ممَّن يحج، ولو كان يحج لغيره، إلاَّ إذا أوقعه على وجه تكون قربة بدلالة أن لا يصح ذلك من الذمي، وإذا ثبت ذلك لم يجز أن يستحق عليه الأجرة؛ لأن الإنسان لا /262/ يجوز أن يستحق الأجرة على ما يتقرب به إلى الله تعالى، ألا ترى أن مما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لعثمان بن أبي العاص الثقفي: ((واتخذ مؤذناً لا يتخذ(2) على أذانه أجراً))، وإلى ما روي عنه عليه السلام أنَّه قال لمن علم رجلاً سورة من القرآن، فأهدى إليه قوساً: ((إن أردت أن يقلدك الله قوساً من نار، فاقبلها))، وإلى ما يروى عن علي عليه السلام أنَّه قال لرجل: ((إني أبغضك لأنك تبتغي على الأذان أجراً، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً))؟
__________
(1) ـ في (ب): الصلاة والأذان.
(2) ـ في (ب): تتخذ.(47/5)
قيل له: لسنا نسلم أن الحج لا يصح من الحاج عن المحجوج عنه إلاَّ إذا قصد به القربة؛ لأنه لو(1) لم يقصد به إلاَّ الانتفاع بالأجرة، لصح حجه عن المحجوج عنه، ولم يُمنع ذلك في الذمي لما ذكرت، وإنَّما امتنع لأنَّه مما لا يصح إحرامه، فكان استئجاره على الحج بمنزلة أن يستأجر الإنسان على ما لا يصح فعله منه، على أنَّه لا يستحق الأجرة، وتكون الأجرة باطلة، يكشف ذلك أن كثيراً من القرب تصح من الذمي نحو الصدقة على المسلمين، وحفر البيار، وبناء القناطر، ومعونة المسلمين على الجهاد، وإنَّما لا يصح منه القرب الَّتِي لا يكون شرط صحتها الإسلام، يبين ذلك أن نكاح الذمي المسلمة لا يصح، وإن لم يكن ذلك لأمر يرجع إلى القربة، على أنَّه لا يمتنع أن يستحق الإنسان الأجرة على ما يتقرب به إلى الله تعالى بأن يشغل نفسه بكتب المصاحف للأجرة، ليكون شغله، بالقرآن، وليَعود ما يحصل له من الأجرة على عياله، أو يصرفها في وجوه البر، ولهذا قال أصحابنا من المتكلمين: إن الإنسان يجوز له أن يفعل الواجب لو جوبه عليه، وليصل به إلى الثواب، فلم يخرج القربة من أن تكون قربة، وإن حصل به فيه غرض آخر، فأما إذا اعتمدوها في الأذان، وتعليم القرآن، فهي عندنا صحيحة، وإنَّما لم يجز أخذ الأجرة عليهما؛ لأن النيابة فيهما لا تصح على ما بيناه، على أن من خالفنا في هذه المسألة يصح المعنى، ويمنع اللفظ؛ لأنهم يجوزوا أن يدفع إلى الحاج ما يحج به، ثُمَّ يضمنونه إن خالف، وهذا هو حكم الأجرة، مما زادوا على أن أوجبوا أجرة مجهولة.
فإن قيل: فإنه لا يضمن إن خالف تضمين الأجرة، وإنَّما يضمن كما يضمن من دُفع إليه شيء ليصرفه في وجه، فصرفه في غيره.
__________
(1) ـ في (أ): إذا.(47/6)
قيل له: هذا الذي ذكرتم لا يصح عند التحصيل؛ لأنَّه إذا أُعطى نفقة على أن يخرج، ويحج، فقرن، ضمن عند أبي حنيفة، وإن تمتع، ضمن في قول أبي حنيفة، ومحمد وأبي يوسف، ويكون الضمان لجميع المال، فلو كان ضمانه على ما ذكرتم، لوجب ألا يضمن ما(1) أنفقه في الطريق إلى أن أحرم؛ لأنَّه صرفه إلى ذلك الوقت في الوجه الذي أمر بصرفه فيه، وفي قولهم أنَّه ضامن جميع المال، دليل على أن ضمانه ضمان الأجير الأجرة إذا خالف، على أن ما يدفع إلى الحاج لا يخلو إما أن يكون هبة، أو إباحة، أو أجرة، ولا يجوز أن يكون هبة؛ لأن الحاج يكون إذاً بذلك حاجاً لنفسه، ولا يجوز أن يكون إباحة، ولا هبة أيضاً؛ لكونه ضامناً إذا خالف، فلم يبق إلاَّ أنَّه يكون أجرة، فصح ما ذهبنا إليه.
فصل [في المستأجر للحج إذا مرض في بعض الطريق فانصرف]
نص يحيى بن الحسين عليه السلام في كتاب (الفنون)(2) على أن المستأجَر إن مرض في بعض الطريق، فانصرف، لم يستحق شيئاً من الأجرة.
ووجه ذلك أن الإجارة وقعت على الحج وأن السير إلى حيث يحرم دخل فيه على سبيل التبع، فلم يجب أن يكون له قسط في الأجير، وهو كما يقول في الأخير المشترك إذا سُلم إليه ما /263/ يعمله كثوب يخيطه، أو كتاب ينسخه أنَّه إذا بقي عنده مدة، ثُمَّ رده من غير أن يعمل، أنَّه لا يستحق شيئاً للحفظ؛ لأن الحفظ دخل فيه على سبيل التبع، فلم يجب [أن يكون] (3) له قسط في الأجرة، وهكذا قال فيمن استؤجر لكتاب يوصله إلى إنسان بعينه في بلد، فمضى إلى ذلك البلد، ولم يظفر بذلك الإنسان، أنَّه لا يستحق شيئاً من الأجرة للوجه الذي ذكرناه.
مسألة [في الرجل الصرورة هل يحج عن الميت إذا كان فقيراً؟]
__________
(1) ـ في (أ): كما.
(2) ـ انظر المنتخب والفنون 446 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ سقط من (أ).(47/7)
قال القاسم عليه السلام في الحج عن الميت لمن لم يحج عن نفسه أنَّه يجوز إن كان فقيراً لا يمكنه أن يحج عن نفسه، وكان مُجَمِّعاً على تأدية حجة متى وجد السبيل إليه، ويكون له رغبة ورهبة في مناسكه ومواقفه. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
والأصل فيه: ما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك، عن شبرمة، فقال من شبرمة؟ فقال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة. فمنعه صلى الله عليه آله وسلم أن يحج عن غيره إلاَّ بعد أن يحج عن نفسه. ثُمَّ روى ـ أيضاً ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً يلبي عن نُبيشة فقال: أيها الملبي عن نُبيشه أحججت عن نفسك؟ قال لا. قال: ((فهذه عن نُبيشتك، وحج عن نفسك)) فأجاز له صلى الله عليه وآله وسلم أن يحج عن نُبيشه وإن لم يكن حج عن نفسه. وروى ابن أبي(1) شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد بن الأسود، عن جعفر، عن أبيه، أن علياً عليهم السلام كان لا يرى بأساً أن يحج الصرورة عن الرجل. فكان فيه مثل ما في الحديث الذي ذكر فيه نُبيشه. فلما ثبت أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نهى واحداً أن يحج عن غيره إلاَّ بعد أن يحج لنفسه(2)، وأباح لآخر أن يحج لغيره، وإن لم يحج لنفسه، كان الاختلاف الواقع فيه لا يخلو من أن يكون راجعاً إلى اختلاف حال المحجوج عنه، أو إلى اختلاف أحوال الحاج، ولا خلاف أن أحوال المحجوج عنه، لا تؤثر في ذلك، فلا بد من أن يكون المؤثر فيه اختلاف أحوال الحاج، ولا حال للحاج يؤثر فيه غير كون أحدهما ممَّن يلزمه الحج لوجود الزاد والراحلة، وكون الآخر ممن لا يلزمه الحج لعدم الزاد والراحلة، فبان أن المؤثر فيه هو ما ذهبنا إليه؛ إذ لم يقل أحد أن التأثير لغير ذلك. ولا خلاف أن الجهاد لا يقع عن الغير مع
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/194.
(2) ـ في (أ): عن نفسه.(47/8)
وجوبه على الفاعل، فكذلك الحج، والمعنى أن كل واحدة منهما عبادة تتعلق بالمال، وفيهما قطع مسافة. ولا خلاف أيضاً أن من كان عليه طواف مفروض، لم يقع الطواف لغير ما لزمه، فكذلك الإحرام، والمعنى أنه ركن من أركان الحج، فوجب ألا يصح وقوعه إلاَّ على الوجه الذي لزمه.
فإن قيل: فهلا يصح على أصلكم؛ لأن عندكم أن من كان فقيراً غير واجدٍ للاستطاعة يجوز له أن يحج عن غيره، وإن لم يكن حج عن نفسه، وهو وإن لم يلزمه الحج، فهو في منزلة من لزمه إذا حضر الحرم والميقات.
قيل له: عندنا إذا خرج لغيره بماله، لم يلزمه فرض نفسه، ويكون حاله كما كان وهو في منزله، فلا يعترض ذلك قياسَنا، ويكون الكلام بيننا وبين أصحاب الشافعي في بيان أن الفقير الذي لا يجد الزاد والراحلة إذا حضر الميقات لغيره بمال الغير لا يلزمه الحج، ويُبَيَّنُ ذلك بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً} وقد ثبت أن الاستطاعة منها الزاد والراحلة، وهذا لم يستطع إليه سبيلاً، فوجب أن لا يلزمه، وأيضاً لا خلاف /264/ بيننا وبينهم أن من قد حج يصح أن يُستأجر للحج عن الغير، وهو في منزله، فكذلك الفقير الذي لم يحج، والمعنى أنَّه مسلم، لا حج عليه، مع صحته منه، فإذا ثبت ذلك، فلا قول بعده إلاَّ قولنا.
ويجوز ـ أيضاً ـ أن نقول: إن ذلك إذا ثبت أنَّه ورد الميقات، فقد لزمه الحج عن الغير بحكم الإجارة، فلا يصح أن يلزمه إذاً الحج عن نفسه، لاستحالة أداء حجتين في سنة واحدة، فإذا لم يلزمه ذلك، حج، مضيه في حج غيره، كما صح ممَّن قد حج، على أنَّه لا خلاف أن من كان من أهل الميقات والحرم، لا يلزمه الحج، إلاَّ بوجود الزاد والراحلة، فلو عينا المسألة فيمن لا يملك شيئاً، كان لا إشكال في أنَّه لا يلزمه الحج عن نفسه، وإذا صح ذلك فيمن ذكرناه، فلا فصل بينه وبين الفقير الذي لا يجد ذلك القدر إذا حضر الحج عن الغير في قول أحد من الناس.(47/9)