أخبرنا محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن إسماعيل بن موسى، عن شريك، عن جابر، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: ((إذا مات المحرم، لم يغط وجهه)) فيجب أن يحمل ما ذكرتموه على أنه أراد إذا مات بعد الرمي، ويدل على ذلك أنَّه شخص أحرم ولم يتحلل، فوجب أن لا يكون لنا تغطية رأسه، وتطييبه من غير ضرورة، قياساً على الحي، ونقيسه ـ أيضاً ـ على المحرم الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا يُغطى رأسه، ولا يُقَرَّب طيباً، بعلة أنَّه مات وهو محرم، وليس لهم أن يعترضوا هذا القياس بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين العلة في ذلك؛ لأنا قد تكلمنا في ذلك بما وجب، على أنَّه إن ثبت، لم يتنافَ علينا، وجاز القول بهما جميعاً، يؤكد ذلك أن وجدنا العبادات الَّتِي تختص الأبدان على ضربين: ضرب لا يثبت حكمه لأحد إلاَّ بنفسه كالصلاة والصيام، ولا يصح أن تستمر عليه الأيام والليالي تباعاً ولا(1) يثبت حكمه بعد الموت. وضرب يثبت حكمه لإنسان بنفسه وبغيره، ويصح أن تستمر عليه الأيام والليالي تباعاً، ويثبت حكمه بعد الموت، وهو الإيمان، ثُمَّ وجدنا الإحرام مما يثبت للإنسان(2) حكمه بنفسه وبغيره؛ لأنَّه يثبت على المغمى عليه عندنا، وعند أبي حنيفة برفقته، ويثبت عند الشافعي بالرجل لابنه الصغير، فوجب أن يكون حكمه حكم الإيمان، في أنَّه يثبت حكمه بعد الموت، وهو أيضاً مما لا يبطل حكمه باستمرار الجنون والإغماء عليه، كالإيمان، فوجب أن لا يبطل بالموت.
__________
(1) ـ في (أ): ويثبت.
(2) ـ في (ب): حكمه للإنسان.(46/16)


باب القول في الحج عن الميت
[مسألة في الإيصاء بالحج]
إذا أوصى الميت أن يُحَجَّ عنه، لزم الوصي ذلك، ويكون من ثلث ماله، وإن حج عنه من غير أن يكون أوصى به، فالحج لمن حج.
نص في كتاب الوصايا من (الأحكام)(1) أن الحج لا يجزي عن الميت، إلاَّ أن يكون أوصى به، وإن حُجَّ عنه من غير أن يكون أوصى، فالحج لمن حج، ونص فيه على أن كل من أوصى بأكثر من ثلث ماله، فالأمر في الزائد إلى الورثة. فدل بظاهر قوله أن يكون الحج في ذلك وغيره سواء، على أنه نص في (الفنون) (2) على أن الحج من الثلث.
وإنَّما قلنا أن من حج عن الغير بغير أمره، لا يقع عنه؛ لقول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، فإذا لم يكن له سعيٌ في الحج، فيجب أن لا يكون الحج له، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( وإنَّما لامرءٍ ما نوى)) وهو لم ينوِ الحج، فوجب أن لا يكون الحج له. وروي عنه صلى الله عليه وآله سلم أنَّه قال: ((من مات، ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً)) وقد علمنا أن الحج لا يقع عمن مات يهودياً، أو نصرانياً، فكذلك من لم يحج، ولم يوصِ به.
فإن قيل: إنَّه(3) صلى الله عليه وآله وسلم لم يستثن من أوصى.
قيل له: قد حصل ذلك مستثنى بالإجماع.
فإن قيل: إن(4) رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله [إن] (5)، أبي مات، ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال: (( نعم حج عن أبيك، أرأيت لو كان على أبيك /260/ دين فقضيته، كان نافعه))؟ قال: قلت نعم. قال: ((فدين الله أولى)).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 2/421 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر الفنون ص 446، 449. وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): فإنه.
(4) ـ في (ب): فقد روي أن رجلاً.
(5) ـ سقط من (أ).(47/1)


قيل له: نحن لا نختلف أنَّه يصح الحج عن الميت، وإنَّما الخلاف في الشرط الذي معه يصح، فجمع بين الآية والخبر، فنقول: يصح الحج عنه إذا كان قد أوصى به؛ لأنَّه قد يكون قد حصل فيه السعي والنية.
فإن قيل: تشبيهه إياه بالدين، يدل على أنه يجزي وإن لم يكن الميت أوصى به. قيل له: تشبيهه إياه بالدين من الوجه الذي قصد لا يوجب كونه مثل الدين من جميع الوجوه، ألا ترى أنَّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم حين سئل عن القبلة للصائم، أرأيت لو تمضمضت؟ لم يوجب أن حكم القبلة حكم المضمضة من جميع الوجوه، فلما كان حكمها [حكم المضمضة] (1) في أنَّها لا تفسد الصيام، فكذلك الحج يجب أن يكون حكمه حكم الدين في أن النيابة تصح فيه دون ما سواه؛ لأنَّه هو المقصد بالكلام، ولا يصح تعلقهم بقوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٌ}، لأن الحج لا يتناوله اسم الدين على الإطلاق، ولا خلاف أن الصيام(2) والصلاة إذا فاتا، لم يلزما الورثة، فكذلك الحج، والمعنى أنَّه عبادة تتعلق بالأبدان، وتختص المكلف، وليس يعترض عليه الزكاة؛ لأنها لا تتعلق بالأبدان؛ ولأنها لا تختص المكلف؛ لوجوبها في مال اليتيم، ومال المجنون، وقولنا: تختص المكلف يجوز أن تكون عليه برأسه، وقياسهم الحج على الدين والزكاة يشهد لقياسنا، ألا ترى أن الدين لما لم يكن عبادة، ولم يتعلق بالأبدان، لزمت(3) الورثة، فإذا ثبت بما بيناه أنَّه لا يلزم الورثة من الإرث، وأنه لا يقع عن الميت إلاَّ بالإيصاء، ثبت أنَّه يخرج من الثلث؛ لأن ما لم يلزم الورثة إخراجه إلاَّ بالوصية، فلا خلاف في أنَّه من الثلث.
فإن قيل: أليس المغمى عليه ينعقد عليه الإحرام بالغير، ويقع عنه، فما أنكرتم مثله في الحج عن الميت؟
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ في (ب): الصلاة والصيام.
(3) ـ في (ب): لزم.(47/2)


قلنا: أنكرنا ذلك؛ لأن الميت لا سعي له في الحج، والمعمي عليه إنَّما يجوز للغير أن يعقد عليه بالإحرام إذا كان قد خرج من بيته، قاصداً للحج، عازماً عليه، وعُلِم ذلك من حاله، ألا ترى أن المغمي عليه في داره لا ينعقد عليه الإحرام؟ وكذلك نقول: إن الميت إن كان قد أوصى، فإن الحج يقع عنه؛ لأنَّه قد حصل فيه سعي ما، فلا يعترض على ما قلناه.
مسألة [في الإجازة للحج]
قال: وتصح الإجارة فيه تخريجاً على قوله فيمن مات، وعليه اعتكاف، أنَّه يُستَأجر من يَعتكف عنه.
كنا خرَّجنا من الموضع الذي ذكرناه، ثُمَّ وجدنا الهادي إلى الحق عليه السلام قد نص على ذلك في (كتاب الفنون) (1)، فأغنى النص عن التخريج.
وحكى أبو العباس الحسني ـ رحمه الله تعالى ـ قريباً من معناه عن القاسم عليه السلام. وحكى نحوه عن محمد بن يحيى عليه السلام.
والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن لبى عن شبرمة ((حُجّ عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)). وقوله للخثعمية: ((حجي عن أبيك))، ولم يستثنِ إلاَّ أن يكون ذلك بأجرة، فكل من حج عن الغير يكون ممتثلاً لظاهر سواء حج بأجرة أو بغير أجرة. ومما يدل على ذلك أن الحج يقع للمحجوج عنه بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن لبى عن شبرمة حج عن نفسك، ثُمَّ حج عن شبرمة، وقوله للخثعمية حين قالت: فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم /261/ وروى ابن أبي(2) شيبة ـ بإسناده ـ عن ابن الزبير قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي مات، ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم، حُج عن أبيك، أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته))؟
__________
(1) ـ انظر كتاب الفنون 446 ـ 447.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/380، وإسناده: حدثنا وكيع، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف، به. وفيه زيادة: أأنت أكبر ولده.(47/3)


وروى هناد ـ بإسناده ـ عن ابن الزبير العقيلي قال: أتى النبي صلى الله عليه آله وسلم: رجل، فقال: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الضعن قال: ((حج عن أبيك، واعتمر)). فكل هذه الأخبار دالة على أن الحج يقع عن المحجوج عنه؛ لأنَّه قال صلى الله عليه وآله وسلم في كل ذلك حُجَّ عنه ـ يعني المحجوج عنه ـ ولا يصح قول من يقول: إن الحج للحاج، وللمحجوج عنه أجر النفقة، والأجرة، وثوابها؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه لو أنفق عن المحجوج عنه أضعاف تلك النفقة في معونة الحج، لم يُجزِه عن الحج، وكذلك لو أوصى هو بأن ينفق أضعاف تلك النفقة في معونة الحاج، لم يجزه عن الحج، فبان بذلك أن الحج يقع عنه. ولا خلاف ـ أيضاً ـ أن الحاج يلزمه أن ينوي الإحرام للمحجوج عنه، فإنه(1) يستحب أن يتلفظ بذلك، ويلبي عنه، ولولا(2) أن الحج يقع عن المحجوج عنه، لم يقع(3) عنه ذلك، ولا خلاف أن الحاج لو خالف [فيه] (4) ضمن النفقة، والأجرة، فلو لا أن عمله لغيره، لم يجب ذلك.
فإن قيل: لولا أن الحج يقع عن الحاج، لم يلزمه أن يحج إذا أفسد حجه، أو فات.
قيل له: إن الحج، وإن وقع عن المحجوج عنه دون الحاج، فلا يمتنع أن يلزمه ذلك؛ لأنه يجري مجرى ضمان الجنايات؛ لأنَّه حكم يلزم من اتفق ذلك عليه وهو محرم، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنه مما يصح النيابة فيه، وإذا(5) صح ذلك، صح أن يفعله النائب بأجرة، وغير أجرة، دليله أداء الزكاة، ألا ترى أنَّه لما جازت النيابة في تفرقة الزكاة، جاز أن يُستأجر من يفرقها عن المزكي، وسائر الأفعال الَّتِي صح الإجارة عليها دليله وأصله.
فإن قيل: لا خلاف أنَّه لا يجوز أن يستأجر من يصلي للغير، وعندكم لا يجوز أن يستأجر من يؤذن، ومن يُعلم القرآن، فما أنكرتم على من قال لكم لا يجوز أن يستأجر من يحج عن الغير؟
__________
(1) ـ في (ب): وإنه.
(2) ـ في (ب): فلولا.
(3) ـ في (ب): يجب.
(4) ـ سقط من (أ).
(5) ـ في (ب): فإذا.(47/4)

67 / 142
ع
En
A+
A-