قال: ومن أتى الميقات عليلاً لا يعقل، يُهلّ بالحج عنه، ويجرد من ثيابه، ويصب عليه الماء إن أمكن، ثُمَّ يقال: اللهم إن عبدك خرج قاصداً إلى الحج، وقد أحرم لك شعره، وبشره، ولحمه، ودمه، ثُمَّ يُلبى عنه، ويسار به، ويجنب ما يتجنبه المحرم من طيب وغيره، فإن احتاج إلى لبس الثياب، أو التداوي بدواء فيه طيبُ، فُعل به ذلك، ولزمته الفدية، فإن أفاق من علته، قضى ما يجب عليه من أعمال حجته، وإن امتدَّ به ذلك، طِيفَ به في المحفه، وحُمل إلى /257/ الموقف ووُقف به فيه، ثُمَّ يُفاض به منه، ويوقف عند المشعر الحرام، ثُمَّ يسار به إلى الجمرة، فيُرمى عنه بسبع، ثُمَّ يرد إلى الكعبة، فيطاف به طواف الزيارة. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام)(1).
وهو قول أبي حنيفة، وحكي أنَّه قول الأوزاعي، وروى نحوه عن الحسن، وعطاء، وطاووس، ذكر ذلك أبو بكر الجصاص في (شرح المناسك) لمحمد. وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يجزيه [ذلك] (2) في الإحرام، فإن أحرم، ثُمَّ أغمي عليه، جاز أن يطاف به، ويوقف. وحكي عن الشافعي أنَّه لا يجزيه في الإحرام، ولا الطواف، ولا الوقوف، وسمعت بعض أصحاب الشافعي يقول: إنَّه يجزي في الوقوف فقط عند الشافعي، ، فإن صح هذا عن الشافعي، إلا دل عليه ما أجمعتما عليه من أن كونه في الموقف على أي وجه حصل يجزي؛ لأنا لا نختلف أنَّه لو وقف، ولم ينوِ، أو مُرَّ به مروراً، أو حصل فيه نائماً، أجزأه، وسواء عرف المكان، أو لم يعرف(3)، فإذا ثبت ذلك، وجب أن يجزيه إذا وقف فيه مغمىً عليه.
فإن قيل: إن الوقوف لم يفتقر إلى النية، فإذا حصل المغمى عليه في الموقف، وجب أن(4) يجزي، وليس كذلك الإحرام؛ لأنَّه يفتقر إلى النية، فحصوله بصفة المحرم لا يوجب له الإحرام إن لم تقارنه النية.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/297 ـ 298 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ في (ب): يعرفه.
(4) ـ (ب): إذا.(46/11)


قيل له: الإحرام مع افتقاره إلى النية عنه مما تصح النيابة فيه بالإجماع، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن نية الغير تقوم مقام نية الذي وقعت النيابة عنه، حتَّى يكون في الحكم كأنه قد نوى، وإذا صح ذلك، وقعت نية الذين يخرجونه ويعقدون عليه الإحرام عنه كأنه هو اذي نوى، على أن من يخالفنا في هذا لا يمنع أن يعقد الرجل على ابنه الصغير، وتكون قائمة مقام نية الابن، فلا يصح منهم إفساد ما ذكرناه لعقد نية من عقد عليه [نية] (1) الإحرام.
فإن قيل: كيف يصح لكم الاعتماد على عقد الرجل الإحرام على [عقد](2) ابنه الصغير، وأنتم لا تقولون به؟
قيل له: غرضنا أن نبين أنَّه لا يمتنع الاتفاق أن يقع نية عاقد الإحرام عن المعقود عنه(3)، ونحن لم نمنع عقد الرجل الإحرام على ابنه الصغير لأمر يرجع إلى النية، وإنَّما منعنا منه لأمر سواه، على أن الوقوف إنَّما صح على الوجه الذي بيناه للنية المتقدمة؛ لأن الوقوف لا خلاف في أنَّه عبادة، والعبادة لا بد فيها من النية، إلاَّ أن النية ربما أجزت، وإن تقدمت، ولم تكن مقارنة، كما أجمعنا عليه أن الصوم يقع صحيحاً بنية متقدمة له، وإذا ثبت هذا، لم يمنع أن يصح إحرام من ذكرناه لنيته المتقدمة. ويقال: لأبي يوسف، ومحمد، وأصحابهما: لا خلاف أنَّه إذا طيف به مغمى عليه أنَّه يجزي، فكذلك الإحرام، بالعلة الَّتِي مضت، ولا يمكن الفصل بينهما بذكر النية؛ لأن الطواف مفتقر إلى النية كالإحرام، ألا ترى أن رجلاً لو دار حول الكعبة، وهو يطلب شيئاً غير قاصدٍ للطواف، لم يُجِز ذلك عن طوافه؟ على أن حصول الإجماع على أن الحج من الميت يصح، وإن لم يكن يصح أن يكون له نية في حال الحج؛ لنيته المتقدمة، يؤكد ما ذهبنا إليه، ويوضحه.
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (ب): عليه.(46/12)


فإن قيل: أليس قد قال في (المنتخب)(1) أن ذلك يتولاه زميله أو بعض رفقائه، فإذا لم يُجز ذلك للطائف، فما أنكرتم أن لا يجوز ذلك للرفقاء؟
قيل له: الفرق بينهم أن رفقاه لما كانوا أخص به في حال حياته في تمريضه، والقيام بأسبابه من غيرهم، وكانوا أخص به من غيرهم في دفنه وتجهيزه، ثبت لهم ضرْبٌ من الولاية، ولهذا كانوا [هم](2) أولى ببيع بعض ما يجب بيعه من أسبابه إن مست الحاجة إليه من غيرهم، فإذا ثبت هذا الضرب من الولاية، قلنا: إنهم هم الذين يحرمون عنه، فأما الأجانب، فلم يثبت لهم شيء من الولاية، فلهذا خصصنا رفقاه بذلك.
فإن قيل: ألستم تقولون أنَّه لا يجوز لهم أن يفعلوا ذلك إلاَّ إذا صاروا إلى آخر المواقيت، فما أنكرتم ألا يجوز ذلك، وإن صاروا إلى آخر المواقيت، كما لم يجز لهم أن يفعلوه قبل ذلك؟
قيل له: لأن الولاية الَّتِي أشرنا إليها إنما نجعلها لهم في حال الضرورة وعند ما يُخاف تلفه، أو تلف ماله، ألا ترى أنا نجيز لهم بيع ما تمس الحاجة إليه من ماله، ولا يجوز لهم أن ينفقوا عليه إلاَّ ما لا بد له، فلما كان ذلك كذلك، لم يجز لهم أن يحرموا له إلاَّ عند الضرورة [وخوف فساد نفقته وفوات حجه، فأما إذا لم تعرض الضرورة، فلا يجوز لهم التصرف عليه](3) كما لا /258/ يجوز التصرف على سائر أسبابه، وإذا ثبت بما بيناه وجوب انعقاد الإحرام عليه، ثبت أنَّه محرم، وثبت سائر ما ذكرناه من أنَّه يتجنب ما يتجنبه المحرم، وأنه إذا أُلبس، أو طُيب لحاجة إليه، لزمته الفدية، وتجزيه حجته.
مسألة [في تكفين المحرم]
قال: وإن مات وهو محرم، لم يُغطَّ رأسه، ولم يخيط بخيوط فيه طيب. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(4) و(المنتخب)(5).
__________
(1) ـ انظر المنتخب 101 ـ 102 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ).
(4) ـ انظر الأحكام 1/298.
(5) ـ انظر المنتخب 102 وهو بلفظ مقارب.(46/13)


والأصل فيه: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا ابن اليمان، حدثنا ابن شجاع، حدثنا الحسين الجعفي، عن ابن عيينة، أن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فَخرَّ رجل من بعيره، فوُقص، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، فإن الله سبحانه يبعثه يوم القيامة مُهلاً)) وفي بعض الأخبار ((لا تقربوه طيباً)).
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا هشيم بن بشير، عن ابن بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو محرم، فوقصته ناقته، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تغطوا رأسه، ولا تمسوه بطيب، فإن الله سبحانه يبعثه يوم القيامة ملبياً)) (1).
ووجه الاستدلال من الخبر أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قضى في المحرم الذي مات بأن لا يغطى رأسه، ولا يُقرب طيباً، وقضاؤه على الواحد قضاء على الجماعة، فيجب أن يكون ذلك قضاءٌ على كل محرم، وحكمه إذا مات.
فإن قيل: كان هذا يجب لو لم يكن صلى الله عليه وآله وسلم علل وبَيَّن أن ذلك لأنَّه يبعث ملبياً، وإذا بَيَّن ذلك، فهذا حكم في كل محرم يُعلم أنَّه يبعث يوم القيامة ملبياً، ولما لم يكن لنا سبيل إلى أن نعلم ذلك من حال أحدٍ من المحرمين، لم يجب أن يفعل ذلك بأحد منهم.
قيل له: الخبر مشتمل على شيئين:
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/303 إلا أنه قال: أبي بشر.(46/14)


أحدهما: ما قضى به في المحرم الذي مات. والثاني: أنَّه يبعث يوم القيامة ملبياً، وقد علمنا أن الخبر هو من أخبار الآحاد، وأنه يقبل فيما طريقه العمل والحكم ولا يقبل فيما طريقه العلم، وقد علمنا أن كون ذلك المحرم ممن يبعث يوم القيامة ملبياً مما طريقه العلم(1)، وأنه لا يجب أن يقبل في مثله خبر الواحد، وأن وروده بخلاف وروده، فصارت هذه الزيادة كأنها لم تَرِد، وإذا كان ذلك كذلك، تجرد قضاؤه في المحرم عن هذه الزيادة حكماً، فيجب(2) أن يحكم بأنه قضاء على كل محرم، على أن هذه الزيادة قد رويت على وجهين مختلفين، رويت يبعث مهلاً ورويت يبعث ملبياً، وهذا كالاضطراب، فأوجب ضعفها ـ يعني الزيادة ـ على أنَّه قد روي في شهداء أحد أنَّه قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا شهيد عليكم اليوم)) ولم يمنع هذا أن يكون حكم الشهداء في ترك غسلهم حكماً واحداً، وإن لم يُعلم في جميعهم أنَّه شهيد عليهم، فكذلك ما اختلفنا فيه.
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كُسر، أو عرج، فقد حل)) فأولى أن يكون من مات قد حل، وهذا يوجب أن لا يكون محرماً، إذا مات، وإذا لم يكن محرماً وجب أن يفعل به ما يفعل بسائر الموتى.
قيل له: لا خلاف أن هذا الخبر لا ظاهر له، وأن المحرم لا يصير حلالاً بنفس الكسر والعرج، ومعناه أن من كسر، أو عرج، فقد جاز له أن /259/ يحل، فإذا كان هذا هكذا، لم يكن لكم تعلق.
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((خمروا رؤوس موتاكم، لا تشبهوا باليهود)).
قيل له: المحرِم مخصوص منه بالدليل.
فإن قيل: روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: ((يغطى رأسه، ويعمل به ما يعلم بسائر الموتى)).
قيل له: قد روينا عنه خلاف ذلك:ـ
__________
(1) ـ في (أ): العام.
(2) ـ في (ب): فوجب.(46/15)

66 / 142
ع
En
A+
A-