فإن قيل: أنتم تقولون أن الظن لا يكون له حكم حتَّى يكون حصوله عن أمارة، ووقوع النحر لا أمارة له عليه.
قيل له: نحن لا نجوز الإحلال إلاَّ إذا كان هناك أمارة، والأمارة تكون سلامة الطريق، وأن لا يكون بلغة، عائق عرض للرسول مع جريان العادة أنَّه إذا عرض له، نُقِل، وَحُدِّثَ به، وأن يكون من واعده موثوقاً به، فإذا حصلت هذه الأمارات جاز أن يحصل له ظن يتعلق به الحكم، ويمكن أن تحرر العلة بأن يقال: لا خلاف أنَّه إذا بلغه أن النحر قد وقع عن نفسين، أو ثلاثة، جاز له الإحلال، فكذلك ما ذكرناه، والمعنى حصول غالب الظن بوقوع النحر عن أمارة صحيحة، ومعنى قولنا صحيحة أن العادة جارية بكون مثلها أمارة للعقلاء.
مسألة [في المحصر إذا تخلص من إحصاره قبل فجر يوم النحر أو بعده]
قال: فإن هو تخلص من إحصاره، وأمكنه أن يلحق الموقف قبل طلوع الفجر يوم النحر، فقد أدرك الحج، ولم يلزمه نحر هديه، وجاز له الانتفاع به، وإن لحق بعد ذلك الوقت، وفاته الحج، نحر هديه، وأهل بعمرة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)(2). أما إذا لحق الموقف قبل طلوع الفجر من يوم النحر، فلا خلاف في أنَّه يكون مدركاً للحج، وقد مضى ما ورد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله /255/ وسلم، وكذلك لا خلاف في أنَّه يلزمه نحر هديه؛ لأن الهدي جار مجرى الكفارة لإحلاله قبل استكمال ما أحرم له، وأما إذا استكمل ما أحرم له، ولم يحل قبله، فلا معنى للكفارة، فأما إذا لحق مكة، وقد فاته الوقوف، فعليه أن يأتي بعمل العمرة، وعليه دم للفوات، وإن كان الاحصار قد زال.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/294 ـ 295 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 105 وهو بلفظ قريب.(46/6)


وهذه الجملة قول القاسم بن محمد، والزهري، روى عنهما ابن أبي(1) شيبة. وقال أبو حنيفة، والشافعي، مثل قولنا، في أن عليه أن يأتي بعمل العمرة إلاَّ أنهما لم يوجبا عليه مع ذلك الهدى، وحكي عن بعض الناس أنَّه قال: يأتي بباقي عمل الحج.
والأصل في ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء أن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال: ((من لم يدرك عرفة، فعليه دم، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل)) (2).
وروى ابن أبي(3) شيبة بإسناده، عن نافع، عن ابن عمر ما رواه عن النبي صلى الله عليه آله وسلم، فلم(4) يرو عن أحد من الصحابة خلاف ما روي عن هؤلاء، فصار كالإجماع، ولا معنى لقول من قال أنَّه يأتي بباقي عمل الحج؛ لورود النص بخلافه.
فإن احتج بقوله تعالى: {وَأَتِمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ}.
قيل له: من فاته الحج لا يصح أن يكون مخاطباً به؛ لأنَّه يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق، على أنَّه إن ثبت ما ادعاه، كان مبنياً على النص الذي روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما لزوم الدم، فالأصل فيه الخبر الذي ذكرناه، ولا خلاف أن المحصر يلزمه دم، فكذلك من فاته الحج، والمعنى أن كل واحد منهما فاته إتمام أركان ما دخل فيه بالإحرام، ويبين أن العلة في الأصل ما ذكرناه وجود الحكم بوجوده، وعدمه، بعدمه ويؤيد قياسنا الاحتياط، وأنه يوجب نسكاً زائداً، وهو مستند إلى النص الذي لا يحتمل.
فصل [في المحصر إذا فاته الحج هل يجب عليه القضاء]
__________
(1) ـ أخرجه عنهما ابن أبي شيبة في المصنف 3/217.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/227 إلا أنه قال: من لم يدرك فعليه.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المنصف 3/227.
(4) ـ في (ب): ولم.(46/7)


ذكر الهادي عليه السلام في (المنتخب) (1) حال المحصر، وحكمه، وما يلزمه إن تخلص من إحصاره، وحكمه إن لم يلحق الحج، ثُمَّ قال بعد ذلك وعليه الحج من قابل، فدل ذلك على أنَّه يوجب القضاء على المحصر. وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا قضاء عليه.
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَأَتِمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} والمحصر قد دخل فيهما، أو في أحدهما، فعليه أن يتم، ولا يمكن الإتمام إلاَّ بالقضاء.
وروى هناد ـ بإسناده ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج معتمراً من العام المقبل في الشهر الذي صُد فيه(2)، فكانت عمرة القضاء. وروى هناد ـ بإسناده ـ عن عطاء أنَّه قال في قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} أنها نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية، فعمرة بعمرة في الشهر الذي صُد فيه، فدل بقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أن العمرة كانت منه صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم على سبيل القضاء، واشتهار تلك العمرة بعمرة القضاء يدل على ما ذهبنا إليه. ولا خلاف أن من فاته الحج، فعليه القضاء، فكذلك المحصر، والمعنى أنَّه يخرج من إحرامه قبل إتمام ما أحرم له، يؤكد ذلك أنا وجدنا الدخول في الحج والعمرة يوجب المضي فيهما، لا خلاف فيه، وفي أنَّه يصير بمنزلة ما كان واجباً في الأصل في باب الوجوب، فوجب(3) أن يلزمه القضاء منه متى خرج منه قبل تمامه لعذر، أو لغير عذر، كسائر الفرائض اللازمة من الصلاة والصيام.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيَ} ولم يذكر القضاء.
قيل له: وجب القضاء بسائر الأدلة الَّتِي ذكرناها، فصار ذلك كالمنطوق به في الآية.
فإن قيل: فقد /256/ جعل الدم فيه يدل ما فات، فلا وجه للقضاء.
__________
(1) ـ انظر المنتخب 105 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (ب): عنه.
(3) ـ في (ب): فيجب.(46/8)


قيل له: ليس وجوب الدم عندنا على وجه البدل لما فات؛ لأن الدم يجب لخروجه من الإحرام قبل استكمال ما وجب فيه، فأما الفائت، فبدله القضاء لا غير، ألا ترى أنا نقول بوجوب الدم على من فاته الحج، وأن تحلل بعمرة؟
فأما أبو حنيفة فإنه كان يقول: إنَّه إن كان مفرداً للحج، فعليه حجة، وعمرة، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر من فاته الحج بعمرة، وحجة؛ لأنَّه أمره أن يتحلل بعمرة وألزمه مع ذلك قضاء الحج.
قيل لهم هذا الاستدلال على أصولكم لا يصح؛ لأن دم الإحصار عندكم يجب أن يكون نائباً مناب عمل العمرة، فلا يجب أن تلزمه إعادته؛ لحصول بدله، فأما نحن، فلا نسلم أن الذي لزمه من الطواف والسعي عمرة مبتدأه؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لوجب أن يكون إحرامه قد انقلب، وصار إحراماً لعمرة حكماً، ولو كان كذلك، لم يلزمه قضاء الحج؛ لأنَّه يكون قد أتى بما أوجب إحرامه، وإنَّما نقول: إنَّه أمرٌ ينافي أعمال الحج، وأسقط عنه من جملته الرمي، والكون بمنى، فعلى هذا لا يلزمنا إيجاب حجة وعمرة عليه، على أنا لا نختلف أنَّه إذا أحصر المتمتع، فليس عليه إلاَّ قضاء العمرة فقط، كذلك إذا أحصر المفرد بالحج، والمعنى أن كل واحد منهما لم يلزم نفسه بإحرامه غيره، فوجب أن لا يلزمه سواه إذا خرج من إحرامه قبل أن يتمه.
مسألة [هل يجب شراء مركوب على المحصر ليلحق الحج؟]
قال: ولو أن محصراً تخلص من إحصاره في وقت ضيق، ووجد مركوباً سريعاً يعلم أنَّه يلحق عليه الحج، لزمه اكتراؤه بالغاً ما بلغ الكرى بعد أن لا يجحف بنفقته، فإن خاف ذلك، لم يلزمه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/295 وهو بلفظ قريب.(46/9)


ووجهه قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} فإذا تمكن من الإتمام على وجه لا يلزمه فيه مشقة عظيمة، ولا يجحف بحاله إجحافاً مؤدياً إلى الضرر العظيم، وجب عليه الإتيان به، ولا خلاف أنَّه إذا وجده بثمن مثله، لزمه التوصل به، فكذلك إذا لم يجد إلاَّ بإضعافه، والمعنى أن إخراجه لا يجحف به.
وهذه الطريقة قد استقصيناها بأكثر من هذا في باب التيمم في مسألة من لم يجد الماء إلاَّ بثمن غال.
مسألة [في الرجل يحج ببعض حرمه ثم يحصر ولا محرم لهن غيره]
قال: ولو أن رجلاً حج ببعض حرمه، ولا محرم لهن غيره، فأحصر، فهن بإحصاره محصرات، فإذا كان معهن محرم غيره، وجب عليهن الخروج معه، وإن لم يكن لهذا المحصر من يقوم به غيرهن، وخُشي عليه التلف إن خرجن، أقام معه منهن من يقوم بأمره، وكانت محصرة بإحصاره. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) والأصل فيه ما بيناه فيما تقدم من أن المرأة لا يجوز لها السفر إلا مع محرم، وأن المحرم شرط في وجوب الحج عليها، فإذا ثبت ما بيناه أن عدم المحرم لها يمنع(2)، جرى ذلك مجرى الإحصار، وكذلك إن وجدت محرماً وخافت على المحصر عنتاً، أو تلفاً إن هي خرجت، جرى ذلك مجرى الاحصار؛ لأن حكم الاحصار يتعلق بأن يحصل عائق عن الحج يعذر معه المحرم عن التأخر من أي وجه كان؛ لأنَّه لا فرق بين سائر العوائق، وبين المرض، وخوف العدو، وفي الوجه الذي جعل للمحصر معه الإحلال، وبعثه الهدي، ويجب أن تكون أحكامهن في جميع ما يلزم المحصر كحكم المحصر، قد نص عليه في (الأحكام).
مسألة [في حكم من أتى الميقات عليلاً لا يعقل إحراماً ولا يطيق عملاً]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/296 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (ب): مانع.(46/10)

65 / 142
ع
En
A+
A-