باب القول في الاحصار وفي من يأتي الميقات عليلاً
[مسألة: فيما يجب على المحصر، وبم يكون الإحصار؟]
إذا أحصر المحرم لمرض مانع من السير أو عدوٍ يخافه، أو حبس من ظالم، بعث بما استيسر من الهدي، والهدي أقله شاة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب)(2). وروى النيروسي، عن القاسم عليه السلام: أقل الهدي شاة. ولا خلاف أن الاحصار يكون بالعدو.
واختلفوا في المرض، فكان ما ذهبنا إليه من أنَّه يوجب الاحصار قول زيد بن علي عليهم(3) السلام، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: لا حصر إلاَّ بالعدو. وروي نحو قولنا عن عطاء، وابن مسعود، وابن عباس، رواه عنهم(4) الطحاوي. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيَ} ولا خلاف عند أهل اللغة أن الاحصار يستعمل في المرض، والحصر في العدو، وقد قال تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} فإذا ثبت ذلك، وجب أن يكون المرض المانع مراداً بالآية، فأما حصر العدو، فإذا أثبتناه مراداً بالآية، فإنما يثبت بالدلالة، والظاهر يوجب أن يكون المراد به منع المرض، فصح ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم أن الآية وردت في سبب، وذلك أنها إنما نزلت في حصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في الحديبية، وكان ذلك حصر العدو، فيجب حمل الآية على ذلك؟
قيل له: لسنا نذهب إلى أن الآية إذا وردت بسبب، وجب قصرها عليه، بل يجب أن تكون محمولة على عمومها؛ إذ لا يمتنع أن يخاطبنا الله تعالى خطاباً يشتمل على السبب وغيره، ويكون الجميع مراداً، وإن كان ورودها صادف حال السبب.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/294 وهو قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 105 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): عليهما.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/249 ـ 252.(46/1)
فإن قيل: ففي سياق الآية ما دل على أن المراد به حصر العدو، وهو أنَّه تعالى استأنف بعد حكم المرض، فقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ}.
قيل له: [هذا] (1) لا نمنع من أن يكون المرض مراداً بالآية الأولى؛ إذ لا يمتنع أن يَرِدَذ عمومٌ يشتمل على أمور، ثُمَّ يذكر بعض تلك الأمور، ويذكر له بعدُ أحكاماً لم تقتضيها اللفظة الأولى، فإذا ثبت هذا، لم يمتنع أن يكون الله تعالى ذكر في الآية الأولى حكم المنع الواقع من جهة المرض، وجهة العدو، ثُمَّ علم تعالى أن في المرض مع كونه مانعاً ما يُحتاج معه إلى أمور محظورة بالإحرام، وإن كان في المرض مالا يحتاج معه إلى ذلك، فبين حكمه، يكشف ذلك أنَّه سبحانه في الآية الثانية لم يذكر حكم المرض المطلق، وإنَّما ذكر حكم مرض خاص يُحتاج معه إلى أمور يحظرها الإحرام، ونظير هذا أن يقول القائل: ((مَنْ كان من أهل هذه الدار، فليصم غداً تطوعاً))، ثُمَّ يقول: ومن كان منهم امرأة ذات زوج فلتستأذن زوجها في التطوع. إن قولهم من كانت منهم امرأة ذات زوج لا يدل على أن قوله من كان من أهل هذه الدار لم يشتمل على النساء مع الرجال، فكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} /253/ لا يدل على أن المرض غير مراد بقوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيَ}.
فإن قيل: فقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} يدل على أن المراد بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} حصر العدو؛ لأن الأمن لا يكون إلاَّ من الخوف.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ).(46/2)
قيل له: هذا السؤال ساقط؛ لأن الأمن كما زعمت ينبه على زوال الخوف، إلاَّ أن الخوف قد يكون من المرض كما يكون من العدو، ولأن(1) الإنسان قد يخاف من أن يتلفه مرضه إن سار، كما يخاف أن يتلفه عدوه، فقد بان أن الأمن قد يكون من خوف المرض، كما قد يكون من خوف العدو، وهذا يسقط تعلقهم بما تعلقوا به، على أن الأمن لو كان على(2) ما ادعوا مقصوراً على مقابلة خوف العدو، كان(3) لا يمتنع أن يكون خص تعالى بالذكر، والحكم، بعضَ ما يتناوله العموم.
فإن قيل: لا تعلق لكم بالظاهر؛ لأن الظاهر هو الإحصار والحكم غير متعلقاً به، وإنَّما يتعلق بالمضمر فيه.
قيل له: الحكم لم يتعلق إلاَّ بالاحصار، وهو المنع والحبس، وإن اختلفت وجوههما، و(4) خص منه بعضه، فقد بان أن التعلق به صحيح.
فإن قيل: فإن الاحصار ظاهر لأحدهما عند أهل اللغة؛ إذ قد فصلوا بين الاحصار والحصر، فلا يمكنكم ادعاء العموم فيه.
قيل له: نحن لا ننكر أن ظاهره لأحدهما، وهو المرض، كما حكى عن أهل اللغة، وإن قلنا العدو مراداً به للدلالة، وهذا لا يمنع أن يكونا مرادين جميعاً بالآية، وأن تكون الآية عامة فيهما، وإن عرفنا كون أحدهما مراداً بالظاهر، وكون الآخر مراداً بالدلالة، ومما يدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا روح بن عبادة، أخبرنا الحجاج بن دينار، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني عكرمة، حدثني الحجاج بن عمر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من كُسر، أو عرج، فقد حل، وعليه حجة أخرى)). فأوجب الخبر أن الإحلال يتعلق بالكسر والعرج، وهو نص مذهبنا.
فإن قيل: فأنتم لا تقولون أن الإحلال يقع بالمرض نفسه؛ إذ لا خلاف في أنَّه لا يتحلل إلاَّ(5) أنَّه يُنحر الهدي عنه.
__________
(1) ـ في (ب): لأن.
(2) ـ في (ب): كما.
(3) ـ في (أ): وكان.
(4) ـ في (ب): أو.
(5) ـ في (ب): إلى.(46/3)
قيل له: معناه قد جاز له أن يحل كما يقول القائل: قد حلت للأزواح إذا خرجت من عدتها، والمراد قد جاز لها أن يحل للأزواج بالنكاح، ولا خلاف أن المنع الواقع من جهة العدو يجيز التحلل، فكذلك المنع الواقع من جهة المرض، والمعنى اعتراض منع يؤدي المقام معه على الإحرام إلى المشقة العظيمة. وأيضاً وجدنا التيمم لما كان بدلالة لا يجوز إلاَّ لعذر، واستوى فيه عذر العدو، وعذر المرض، فوجب أن يكون إحلال المحصر كذلك؛ لأنَّه بدل لا يجوز إلاَّ مع العذر، والأصول شاهدة معنا؛ لأنا وجدنا كل عذر له حكم، إذا كان من جهة العدو، يكون له ذلك الحكم إذا كان من جهة المرض، نحو الإخلال بأركان الصلاة، وترك الحج، وإفساد الصوم، على أن عذر المرض يجب أن يكون أقوى من عذر العدو، ولأن الخائف للعدو قد يمكنه أن يأتي(1) مما يلزمه في بعض الأحوال، مع ضرب من الاحتراز، والاستخفاء، ولا حيلة في المرض.
فإن قيل: قد حصل للمريض أحد الترفيهين، وهو الطيب، واللباس، إذا احتاج إليهما، فلا يجب أن يحصل له الترفيه الآخر وهو الإحلال.
قيل له: والخائف من العدو قد يحصل له هذا الضرب من الترفيه، وهو أنَّه يلبس الدرع، والمغفر، إذا احتاج إليهما، كما /254/ يحصل للمريض، ولم يمنع ذلك من أن يحصل له الترفيه بالإحلال، فكذلك المريض. وقلنا: إن أقل الهدي شاة؛ لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيَ} ولا خلاف أن اسم الهدي يتناول الشاة. وروى ابن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام قال: ((ما استيسر من الهدي، شاة)) (2).
وروى ابن أبي (3) شيبة، عن ابن عباس، وابن عمر، ذلك، وهو مما لا خلاف فيه.
مسألة [هل يواعد المحصر الرسول يوماً منه أيام النحر لنحر الهدي أم لا؟]
__________
(1) ـ في (ب): ما.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 3/135 وفيه سقط جعفر من السند.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/134 ـ 135.(46/4)
قال: ويواعد الرسول يوماً من أيام النحر، ويأمره بنحره عنه بمنى. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والمراد به أنَّه إذا كان المحرم حاجاً، فإن كان معتمراً، فيجزيه إذا بلغ الحرم. ووجه ما ذكرناه من نحر الهدي بمنى يوم النحر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذبح هديه بمنى يوم النحر، وقال: ((خذوا عني مناسككم}، فيجب أن يكون ذلك حكم هدي المحصر؛ لأنَّه هدي منع الحلاق قبله للحاج، وأبو يوسف، ومحمد، يوافقان على أنه ينحر يوم النحر.
وروى هناد بن السري نحوه عن عطاء. وفيه الاحتياط؛ لأنَّه لا خلاف أنَّما ذكرناه يجزي، واختلف في غيره. وأبو حنيفة يوافق في هدي التمتع أنَّه لا يجزي قبل يوم النحر، فوجب أن يكون كذلك هدي المحصر؛ لأنَّه هدي يتوصل به إلى الإحلال من الحج.
مسألة [في تحديد المحصر لوقت نحر هديه من يوم النحر]
قال: ويذكر له وقتاً من ذلك اليوم بعينه، فإذا كان بعد ذلك الوقت بقليل أو كثير، حلق رأسَه المحصرُ، وأَحلَّ من إحرامه، ويستحب له أن يحتاط في تأخير الحلق عن الوقت الذي واعد رسوله أن ينحر فيه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب)(3) غير ما ذكرناه من الاستحباب، فإنه منصوص عليه في (الأحكام). وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وروى نحو قولنا عن عطاء، رواه هناد بإسناده، وعند غيرنا لا يُحل حتَّى يعلم أنَّه قد نحره.
ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه لم يؤخذ عليه العلم في ذلك؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه لا يلزمه مشاهدته، وإن لا يراعى تواتر الأخبار عنه، وهذان هما طريقا العلم، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن المأخوذ عليه فيه غالب الظن، فإذا كان ذلك كذلك، وغلب في ظنه أن النحر قد وقع، جاز له أن يحل.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/294 وهو بلفظ قريب جداً.
(2) ـ انظر الأحكام 1/294 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 105 وهو بلفظ قريب.(46/5)