المراد بقولنا: إذا خلى كلبه على ظبي في الحرم: هو أن يكون الظبي في الحرم حين الإغراء حتَّى يكون الكلب هو الذي /250/ يطرده حتَّى يخرج عن الحرم، فإذا كان هذا هكذا، فيجب أن تلزمه القيمة؛ لأن الجنايات المؤديات إلى تلف الصيد وقعت والصيد في الحرم. يبين ذلك أن إغراء الكلب مثل الرمي؛ بدلالة أنَّه إذا أغراه من لا تؤكل ذبيحته، لم يجز أكل ما قتله، وإن أغراه من تؤكل ذبيحته، جاز أكله، فبان أن الإغراء مثل الرمي، على أن الإغراء أوكد من الدلالة، فإذا قلنا إنَّه يلزمه القيمة إذا دل، كان إذا أغرى الكلب أولى أن يلزمه. وكذلك إذا خلى الكلب في الحل، فلحق الصيد في الحرم، وقتله؛ لأن القتل وقع والصيد في الحرم، فوجب أن يلزمه قيمته؛ لأن قتل الكلب الذي أغراه بمنزلة ما يتولاه هو من القتل، على ما أوضحناه من أن الإغراء كالرمي. وأبو حنيفة فصل في هذه المسألة الأخيرة بين الرمي والإغراء فقال: إذا رمى وهو في الحل، فأصاب صيداً، وهو في الحرم، فعليه الجزاء، وإن أغرى كلباً في الحل، على صيد في الحل، فلحقه في الحرم، وقتله فيه، أنَّه لا جزاء عليه، وفصل أصحابه فيهما بأن مرور السهم من فعله، ومرور الكلب في الحرم ليس من فعله، وهذا لا معنى له؛ لأن الذي أوجب ضمانه في الرمي، أن الصيد حصل مقتولاً في الحرم بسبب من جهته، على أنا قد بينا أن قتل الكلب المغرى يقوم مقام قتل المغري، ألا ترى أنَّه إذا كان المغري ممَّن لا تؤكل ذبيحته، لا يؤكل ما قتل كلبه، وإذا كان ممَّن تؤكل ذبيحته، أُكِل ما قتله كلبه، وكذلك إن ترك التسمية معتمداً عند الاعزاء، لم يؤكل ما قتله كلبه، كما لا يؤكل إذا تركها عمداً عند ذبحه، فوضح بذلك أن قتل الكلب المغرى قائم في الحكم مقام قتل المغري بنفسه(1)، فوجب أن يضمن، على أنه لا خلاف أنه إذا أغرى كلبه على بهيمة غيره، فقتلها، أنَّه يضمن، فكذلك ما اختلفنا فيه؛ لأن قتله يجري مجرى فعل المغري.
__________
(1) ـ في (ب): نفسه.(45/54)


مسألة [في المملوك يحرم بإذن سيده هل يجب عليه ما لزمه من كفارات؟]
قال: وإذا أحرم العبد، أو الأمة، بإذن سيدهما، فما لزمهما من كفارة، أو فدية، فعلى سيدهما متى لم يفعلاه تمرداً، فإن كان فعله ناسياً، أو مضطراً، فلا شيء عليه، وما فعله تمرداً، فكفارته دين عليهما يؤديانها إذ عتقا(1)، فإن كانا أحرما بغير إذن سيدهما، فليس على سيدهما من فعلهما شيء، فعلا ما فعلا، على طريق النسيان، أو الضرورة، أو على سبيل التعمد والتمرد، بل هو دين عليهما يخرجان منه إذا عتقا. وجميعه منصوص عليه في (الأحكام) (2)، وذكر فيه أن سيده إن شاء أطعم عنه، وإن شاء أهدى، وإن شاء أمره بالصوم.
ووجهه: أنَّه مما طريقه المال المحض مضمون عليه بالجناية لا يتضمن ما يجري مجرى السبب، يلزم العبد، فجاز أن يكون لوجوب حمل السيد عنه مسرح، قياساً على سائر الجنايات الَّتِي يضمنها السيد، ولا يعترضه ما يلزم العبد مما يفعله على سبيل العمد والتمرد، أنا لم نعلل لأعيان المسائل، وإنَّما عللنا لأن نبين أن لوجوب حمل السيد مسرحاً فيه، وـ أيضاً ـ فهو مال لزم بسبب عبد يراعى(3) فيه إذن السيد من غير أن أثم العبد فيه، فوجب أن يلزم السيد ضمانة، دليله المهر، والنفقة في النكاح.
فإن قيل: فهذا يلزمكم في كفارة الظهار، وقد نص يحيى عليه السلام في (الأحكام) على أنَّه لا يجزي العبد فيها إلاَّ الصيام.
قيل له: أما العتق، فليس يجوز أن يلزم العبد على وجه، ولا يصح أن يعتق السيد عنه؛ لأن العتق يوجب الولاء لمن أعتق، فامتناع حصول الولاء للعبد يمنع حصول العتق عنه؛ لأن ما منع حصول الحكم، منع حصول العلة الموجبة له، وقد احترزنا من ذلك في قياسنا بقولنا: إنه لا يتضمن ما يجري مجرى السبب، والولاء جارٍ مجراه.
__________
(1) ـ في (ب): أعتقا.
(2) ـ انظر الأحكام 1/333 وهو بلفظ مقارب.
(3) ـ في (ب): مراعى.(45/55)


وأما /251/ الإطعام فلم يجوزه؛ لأن العبد قادر على الصيام، ولا يجزي الإطعام في كفارة الظهار إلاَّ بعد العجز عن الصيام.
فإن قيل: فيلزمكم هذا في العبد الذي يعجز عن الصيام(1)، فلا يمتنع أن يقول: إنَّه يجوز أن يحمل عنه السيد الإطعام، إن عجز عن الصيام. وأما كفارة اليمين فلا يعترض على ما قلناه؛ لأن الكفارات الثلاث لا تلزم إلاَّ مع التخيير، ولا يصح تخيير العبد فيها؛ لما بيناه من أن العتق يمتنع وقوعه منه، وليس بعد الكفارات الثلاث إلاَّ الصيام، يؤكد ما ذهبنا إليه أن أذن السيد له بالإحرام جارٍ مجرى تظمن ما يجري بسببه، كما قلنا ذلك في المهر، والمتعة، والنفقة، ألا ترى أن أذنه له بالنكاح يجرى مجرى تضمنهما؟ وكذلك الأذن له في البيع والشراء يجري مجرى تضمن ما يجب بسببهما.
فإن قيل: فلِمَ فرقتم بين ما يفعل من ذلك تمرداً أو بين ما يفعله على وجه لا يأثم فيه؟
قيل له: لأن الأصل فيما يرتكبه العبد من المحظورات الَّتِي لا يتعلق بها حق آدمي بعينه إنَّه لا يضمنه السيد عنه، وليس يمتنع من باب التحمل أن يفرق بين الجناية الواقعة على وجه يستحق بها المآثم، والجناية الواقعة على وجه لا يستحق المآثم بها، ألا ترى أن العاقلة تتحمل جناية الخطأ، ولا تتحمل جناية العمد؟ وليس يمتنع أن يقول في وجه الفرق بينهما أنا لو أوجبنا التحمل في العدوان والتمرد، كان ذلك إغراءً للعبد بمثله، وهذا ممتنع لا يحسن، ويشهد لصحة هذه التفرقة بحمل العاقلة دية الخطأ، ولا يجب أن يستبعد ما ذهبنا إليه من تحمل المولى عنه الكفارة؛ لأنا وكثيراً من العلماء قلنا: إن المحرم إذا أكره زوجته على الجماع يحمل البدنة عنها، وهو قول الشافعي في غير الإكراه ـ أيضاً ـ وبه قال في كفارة الجماع في رمضان.
مسألة [في الصبيان إذا أحرموا هل تلزمهم الجزاءات؟]
__________
(1) ـ في الهامش لعل صدر الجواب ساقط.(45/56)


قال: والصبيان إذا أحرموا، فليس عليهم فداء، ولا كفارة في شيء مما يفعلونه، وإن حماهم أولياءهم عن ذلك، كان حسناً، ولا يلزم ذلك. وهو منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والأصل في هذا أن الصبي لا ينعقد إحرامه، فلم يحصل له حرمة الإحرام، فلهذا قلنا: إنَّه لا يلزمه شيء فيما يأتيه من ذلك.
ووجه استحبابنا أن يمنعهم عنه أولياؤهم: أنَّه مستحب للرجل أن يأخذ ابنه إذا صار له سبع سنين ونحوه، ويحثه بالصلاة، وأن يأخذه بالصيام إذا أطاق، على وجه التأديب، ليتعود على ذلك، ويستمر عليه، فكذلك أدب الإحرام.
فإن قيل: ولم قلتم إن إحرامهم لا ينعقد؟
قيل له: لأنهم ليسوا من أهل العبادات، فوجب أن لا ينعقد إحرامهم، كالذمي، ألا ترى أنهم لا يؤاخذون بصوم، ولا صلاة، ولا يلزمهم القضاء لما فات منها.
فإن قيل: أليس قد قلتم الزكاة لازمة لهم؟
قيل له: الزكاة حق لازم في المال(2) ولا يمتنع في الحقوق الَّتِي تلزم في المال أن تثبت في أموال من لم يكن من أهل العبادات، يكشف ذلك أن الحج لا يلزمه على وجه من الوجوه، لا في نفسه، ولا في ماله، فبان أن إلحاق حكم إحرامهم بحكم إحرام الذمي أولى من إلحاق حكمه بحكم زكواتهم.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن امرأة رفعت إليه صبياً فقالت: ألهذا حج؟ فقال: ((نعم، ولك أجر)).
قيل له: المراد أنَّه مستحب أخذه به على ما ذكرناه من طريق التأديب والتعويد، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نبه على ذلك بقوله: ((ولك اجرٌ)) فبان أن لها الأجر بأخذه بذلك.
فإن قيل: فقد أثبت له النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجاً، وأنتم لا تثبتون له الحج على وجه من /252/ الوجوه، فيبقى كلامه صلى الله عليه وآله وسلم على مذهبكم معرى عن الفائدة؟
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/333 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (ب): فلا.(45/57)


قيل له: معناه أنَّه يحسن أن يؤخذ بأعمال الحج، وهذا وجه الفائدة؛ لأنَّه لولا قوله صلى الله عليه وآله وسلم، لم نكن نعلم أنَّه يحسن منا إلزامهم تلك المشاق.(45/58)

63 / 142
ع
En
A+
A-