ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه هتك حرمة إحرامين بقتل الصيد، فوجب أن يلزمه جزاءان، كما إنه لو كان مفرداً لكل واحد من الاحرامين، لزمه ذلك، لهتك كل واحد منهما، وقد بينا في مسألة وجوب الطوافين على القارن أنَّه محرم بإحرامين، واستدللنا عليه بافتقاره إلى تبيين نية الحج، ونية العمرة، ومما يبين ذلك أن الإحرام جزءٌ من العمرة، وجزءٌ من الحج، والقول بأن القارن ليس له إلاَّ إحرام واحد، يؤدي إلى القول بأن الحج والعمرة شيء واحد، وفي هذا إخراج له من أن يكون قارناً إلى أن يكون مفرداً، على أن قولهم هذا، يؤدي إلى أن لا يكون بين القارن وبين المفرد فرقٌ بوجه من الوجوه؛ لأنهم لا يوجبون على القارن إلاَّ ما يجب على المفرد، وعلى هذا لا معنى لوجوب الدم على القارن، على(1) أنا نعبر عن الفرض بعبارة لا يمكنهم الممانعة فيها، وإن كانت ممانعتهم ظاهرة الفساد فنقول: لَمَّا ثبت أنَّه قد /244/ أدخل النقص بذلك على الحج والعمرة، وجب أن يلزمه لكل واحد منهما جزاء، كما في حال الانفراد، ولا خلاف أن القارن إذا جامع، أدخل الفساد على الحج والعمرة جميعاً، بدلالة أنَّه يلزمه قضاؤهما، فكذلك إذا قتل صيداً، يجب أن يكون قد أدخل النقص على كل واحد منهما، فصح بذلك ما عبرنا، واطرد قياسناً.
فإن قاسوه على المفرد؛ بعلة أن الصيد المقتول واحد، فوجب أن يلزمه جزاء واحد، كان قياسنا أولى؛ لأنا قد بينا ـ في المسألة الَّتِي تقدمت هذه ـ أن الاعتبار إنَّما هو بالنقص الحادث في الإحرام، دون الصيد، يكشف ذلك أنَّه لا نقص يطرو على الإحرام إلاَّ ويوجب حكماً، وليس كذلك قتل الصيد؛ لأن الصيد قد يقتله الحلال، ولا يلزمه شيء، فإذا صح أن الاعتبار هو بإدخال النقص على الإحرام على ما بيناه، أن قياسنا أولى من قياسهم.
__________
(1) ـ في (ب): على ما نعبر على الفرص ولا يمكنهم الممانعة فيها. ونبه في الهامش على ما ذكرناه نقلاً عن شرح القاضي زيد.(45/39)
فإن قيل: أليس القارن لا يلزمه إلاَّ حلق واحد، أو تقصير واحد، ولو كان مفرداً بالحج، أو العمرة، لزمه لكل واحد منهما حلق، أو تقصير، فما أنكرتم أن يكون لا يلزمه إذا قتل الصيد [لا يلزمه] (1) إلاَّ جزاء واحد، [وإن كان مفرداً لزمه جزاءان] (2).
قيل له: لأن الحلق، أو التقصير، خروج من الإحرام، فإذا خرج بواحد منهما لم يتأتَ الخروج بالثاني؛ لأن الثاني يقع وهو خارج من الإحرام، ولذلك(3) لم يصح أن يلزمه حلقان، أو تقصيران، وليس كذلك الجزاء في قتل الصيد؛ لأنَّه قد أدخل النقص به عليهما، فعليه أن يجبر كل واحد منهما بما بيناه؛ إذ هو متأت، وممكن.
فإن قيل: فقد قال(4) تعالى: {فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ولم يشترط أن يكون مفرداً، فوجب أن لا يلزم القارن، والمفرد، إلاَّ جزاء واحد.
قيل له: قد بينا أن الجزاء مصدر لا يختص بعدد، على أنَّه لو أوجب جزاء واحد، فلا يمتنع أن يوجب الجزاء(5) على ما ذكرناه من الاعتبار، على أن اعتبارنا يقتضي الإيجاب، والاحتياط، فهو أولى، وجميع ما ذكرناه في إيجاب الجزاءين على القارن إذا قتل الصيد في الحرم، لم(6) يلزمه إلاَّ جزاء واحد، لا يوجب عليه جزاءين، ولا يسقط أحدهما بالآخر على ما سلف القول فيه.
مسألة [في المحرم يقتل صغار الطيور]
قال: وعلى المحرم في صغار الطيور، كالعصفور، والقنبرة، والصعوة، أن يتصدق بمدين من الطعام(7)، إلاَّ أن يكون قيمته أكثر من ذلك، فيبلغ به القيمة.
__________
(1) ـ زيادة في (أ).
(2) ـ زيادة في (أ).
(3) ـ في (ب): فلذلك.
(4) ـ في (ب): الله عز وجل.
(5) ـ في (ب): أن يوجب الجزاء الثاني ما ذكرناه.
(6) ـ في الهامش ((لم يلزمه إلا قيمة واحدة، ولا يوجب عليه قيمتين)) ظن.
(7) ـ في (أ): طعام.(45/40)
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وذكْرُ الْمُديَّن إنَّما هو على سبيل التقويم، فقد نبه عليه بقوله إلاَّ أن يكون قيمته أكثر من ذلك، فيبلغ به القيمة، وهو قول عامة الفقهاء من إبراهيم، وأبي حنيفة وأصحابه، والشافعي، وغيرهم(2)، وهو قول عامر.
والأصل فيه ما روى الصحابة، من ذلك: حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال في الجرادة قبضة من طعام. ورواه ابن أبي شيبة(3) بإسناده أن مروان بن الحكم سأل ابن عباس فقال: الصيد يصيده المحرم لا يجد له نداً من النَّعم، فقال ابن عباس: ثمنه يهديه إلى مكة وروى أيضاً بإسناده، عن ابن عباس وابن عمر،قالا: في محرم قتل قطاة ((ثلثاً مد)) وثلثاً مد أخرى في بطن مسكين خير من قطاة(4).
وروى أيضاً بإسناده، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، وعن إبراهيم، عن عمر أنهما قالا ((في بيض النعام قيمته)) (5)، وعن عمر(6) تمرة خير من جرادة، فكل ذلك يبين صحة ما ذهبنا إليه من أنَّه يطعَم عما لا ند له من الصيد ما يقارب قيمته. وحكى عن داود أنَّه قال: لا شيء عليه، وهو باطل؛ لما حكيناه عن الصحابة ؛ ولأنه استهلك ما منع من استهلاكه لحرمة الإحرام، فلا بدمن الجزاء قياساً على ما له /245/ من الصيد، مثل أو لأنَّه أتى في الإحرام بما هو محظور به، فلا بد من الجزاء، قياساً على اللبس، والطيب.
مسألة [في المحرم يشتري الصيد، أو يحمله إلى بلده، ما عليه؟]
__________
(1) ـ انظر المنتخب 100 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ في (أ): غيرهما.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/309 وإسناده: حدثنا أبو الأحوص عن سماك، عن عكرمة، به.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/344، وإسناده: حماد بن خالد، عن عبد الله بن مؤمل، عن ابن أبي مليكة، به، ولفظه: ((ثلثاً مد وثلثاً مد خير من قطاة)).
(5) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف.
(6) ـ تقدم تخريجه.(45/41)
قال: ولو أن محرماً أخذ صيداً شراءً، أو اصطياداً، ثُمَّ لم يرسله حتَّى مات في يديه(1)، فعليه الجزاء، ولو أنَّه اصطاده، ثم حمله إلى بلده، فعليه أن يرده إلى حيث أخذه، ثُمَّ يرسله، ويتصدق بصدقة لحصره وإفزاعه، فإن لم يرسله حتَّى مات، فعليه الجزاء.
وجميعه منصوص عليه في (المنتخب)(2). ولا خلاف أن ما أخذه المحرم من الصيد على سبيل المباشرة، فهو ضامن له وإنه مات في يده فعليه الجزاء؛ لأنَّه يكون سبب تلفه وهلاكه، فكأنه قتله. وقلنا: إن عليه أن يرده إلى حيث أخذه منه؛ ليكون قد رده إلى مأمنه، وليكون قد أزال الضر ر عنه، ألا ترى أنا نوجب الصدق في إفزاعه وحصره لما فيه من إدخال لضرر عليه، ولا خلاف أنَّه إذا نفره لزمه جزاء إن لم يعد إلى ما كان عليه.
والأصل في جميع ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ينفر صيدها)) وليس في التنفير إلاَّ إدخال الضرر عليه.
مسألة [هل يجزي ذبح الجزاء في غير مكة؟]
قال: وعليه أن يبعث الجزاء إلى مكة، ولا يجزيه ذبحه في بلده. وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3). ونص أيضاً فيه على أنَّه يتصدق بمكة. ونص في (الأحكام) (4) على أن من خاف تلف هديه في الطريق، باعه، واشترى بدله، فإن فَضُل من ثمنه شيء، اشترى بثمنه طعاماً، وتصدق به في منى. فدل على أنَّه يوجب التصدق(5) به في الحرم، كما ذهب إليه الشافعي. قال أبو حنيفة: يذبحه بمكة وإن تصدق به في غير مكة، أجزأه.
__________
(1) ـ في (ب): يده.
(2) ـ انظر المنتخب 101، 102 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 102 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر الأحكام 1/330 وهو بلفظ قريب.
(5) ـ في (ب): المتصدق.(45/42)
والأصل في هذا قول الله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فوجب أن يكون بالغ الكعبة من جميع وجوهه، فيجب(1) أن يكون التفرقة [بها] (2) وعندها، وأيضاً قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذبح عن القران، وأمر علياً بالذبح، وفرَّق على المساكين لحم الهدي بالحرام، وقد قال [صلى الله عليه وآله وسلم] (3): ((خذوا عني مناسككم)) فأوجب الإقتداء به في المناسك، فوجب أن تكون التفرقة حيث فرَّق صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل : قوله سبحانه: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} يقتضي بلوغه الكعبة فقط دون ما سواها.
قيل له: بل يجب أن يكون بالغها من جميع الوجوه، ألا ترى أنَّه لا خلاف أن الآية أوجبت ذبحه عند الكعبة؟ ولم يقل أحد إن بلوغه الكعبة هو المراد وأن نحره بعد ذلك خارج الحرم جائز.
وأيضاً لا خلاف في الأضاحي أن حكم نحرها وتفرقة لحمها في باب البقاع واحد، فوجب أن يكون الهدي كذلك، والمعنى أنَّه حيوان تعلقت القربة بنحره، على أن الغرض بالنحر نفع المساكين، فإذا خص النحر بموضع، علم أن المقصد به نفع المساكين في ذلك الموضع؛ لأن الغرض لو لم يكن كذلك، كان مقصوراً على تنجيس الموضع فقط، وهذا بعيد، وليس لهم أن يقيسوا مساكين غير الحرم على مساكين الحرم؛ لأنَّه قد صار حقاً لمساكين الحرم على ما بيناه.
فإن قيل: لو كان ذلك حقاً لهم، لكان لهم أن يطالبوا به.
قيل له: هذا لا يمنع أن يكون حقاً لهم، على أنَّه لا خلاف أن نحره في غير الحرم لا يجزي، فوجب أن تكون تفرقته كذلك، والمعنى أن كل واحد منهما تعلق بالهدي من حيث كان هدياً بعد بلوغه الحرم، ويقوي ما ذهبنا إليه أنَّه يقتضي إيجاباً، وحظراً، واحتياطاً، وفيه أنا رددنا حكم /245/ الهدي إلى حكم الهدي، وهم ردوا حكمه إلى غيره، فما ذهبنا إليه أولى.
مسألة [في المحرم ينتف ريش الصيد أو يقصه]
__________
(1) ـ في (ب): فوجب.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ سقط من (ب).(45/43)