باب القول فيما يستحب أو يكره من الصيام(1)
[مسألة في صيام عاشوراء ويوم عرفة، والدهر، وأيام البيض، والمحرَّم، ورجب، وشعبان، والاثنين، والخميس، والعيدين، والتشريف]
يستحب صيام عاشوراء.
قال القاسم عليه السلام: وهو العاشر من المحرَّم. وكذلك صيام عرفة للحاج، ولمن كان في سائر الأمصار.
ويستحب صيام الدهر لمن أطاقه، ولم يضر بجسمه، بعد أن يفطر العيدين، وأيام التشريق، فإنه لا يجوز صيامها، ويستحب صيام أيام البيض، وهي ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر من الهلال، وفي صيامها فضل كبير.
قال القاسم عليه السلام: ويستحب صيام المحرَّم، ورجب، وشعبان، والإثنين، والخميس.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2).
وما حكيناه عن القاسم عليه السلام قد رواه يحيى عنه في (الأحكام) (3)، والنيروسي في مسائله، خلا صيام المحرم، فإن النيروسي رواه دون يحيى عليه السلام، قلنا: إن صوم عاشوراء يستحب(4) لأنه كان واجباً، ثم نسخ الوجوب، فبقي كونه ندباً؛ إذ لم يرو نسخه، والوجوب صفة زائدة على الندب.
وروي في عدة من الأخبار أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يصومه.
وعن ابن عباس رحمه اللّه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( ليس ليوم على يوم فضل في الصيام، إلا شهر رمضان، ويوم عاشوراء )) .
وذهب بعض الإمامية إلى كراهة الصوم فيه؛ لأنه يوم حزن، لقتل الحسين بن علي عليهما السلام، وذلك لا معنى له؛ لأن الحزن لا يمنع من الصوم، على أن الحادثة كانت بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا يجوز أن يتغير بعده حكم الشرع.
__________
(1) ـ في (أ): للصائم.
(2) ـ انظر الأحكام 1/540 ـ 241 ـ 243 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر نفس الصفحات السابقة.
(4) ـ في (ب): مستحب.(37/1)
وقلنا: إنه العاشر من المحرم؛ لأنه رأي أهل البيت عليهم السلام لا يختلفون فيه، وإن روي أنه التاسع، وقد قيل فيما روي من صوم يوم التاسع، هو لئلا يكون يوم عاشوراء مقصوداً للصوم، ويُضَم إليه التاسع، يبين ذلك:
ما روى أبو داود في (السنن) بإسناده عمن قال: سمعت أبا عطفان يقول: سمعت عبد اللّه بن عباس، يقول: حين صام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم عاشوراء، وأَمر بصيامه، قالوا(1): يارسول اللّه، إنه يوم يعظمه اليهود، والنصارى. فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( فإذا كان العام المقبل، صمنا اليوم التاسع )).
فدل هذا الخبر على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان صام يوم العاشر، ثم لما قيل له ما قيل، قال: (( إذا كان العام المقبل، صمنا اليوم التاسع ))، فبان أن صيامه يوم عاشوراء كان في غير التاسع، وأن صيام التاسع عزم عليه لمخالفة /120/ اليهود.
واستحببنا صوم يوم عرفة لما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا سعيد، قال: سمعت غيلان بن جرير يحدث، عن عبد اللّه بن معبد، عن أبي قتادة الأنصاري أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة فقال: (( يكفر السنة الماضية، والباقية )).
فإن قيل: روي عن عقبة، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (( إن أيام الأضاحي، وأيام التشريق، ويوم عرفة عيدنا أهل الإسلام، أيام أكل، وشرب )).
قيل له: هذا لا يوجب أن صيامه مكروه، وإنما فيه أن له فضل العيد، وقوله: ((أيام أكل وشرب ))، محمول على أن الصوم غير واجب فيه؛ لأن الصوم إذا لم يجب في يومٍ، كان ذلك اليوم يوم أكل وشرب، فيكون ذلك جمعاً بين الخبرين.
فإن قيل: روي عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن صيام عرفة بعرفة.
__________
(1) ـ في (أ): فقالوا.(37/2)
قيل له: يحتمل أن يكون النهي خاصاً لمن كان مجهوداً في ذلك اليوم، فكره له ذلك؛ لئلا ينقطع به عما هو واجب عليه من المناسك، وهكذا نقول في كل مستحب؛ حتى أنْ لا يؤدي إلى الإخلال بالواجب أنه يصير مكروهاً.
وقلنا: إن صوم الدهر مستحب لمن قدر عليه ولم يضر بجسمه، إذا أفطر العيدين وأيام التشريق حديث ابن عمرو(1)، رواه أبو داود في (السنن) قال: لقيني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقال: (( ألم(2) أحدث عنك أنك تقول: لأقومنَّ الليل ولأصومنَّ النهار )). قال الراوي: أحسبه قال نعم، قد قلت ذلك. قال: (( فقم، ونم، وافطر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام، وذلك مثل صيام الدهر )). فلما شبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صيام ثلاثة أيام من كل شهر ـ إخباراً عن فضله ـ بصيام الدهر، ثبت أن صوم الدهر مستحب.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن العباس الطبري، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن شعيب بن عثمان بن سعيد، قال: حدثنا أبو الحسين أحمد بن هارون، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، قال: صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر وهن يذهبن وحر الصدر(3).
وفي غير هذا الإسناد قيل: وما وحر الصدر؟ قال: ((إثمه وغلّه)) فهو ـ أيضاً ـ عليه السلام شبهه بصيام الدهر، فدل ذلك على أن صيام الدهر كان عنده مستحباً.
__________
(1) ـ في (ب): بـ .
(2) ـ في (ب): أفلم.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الصنف بإسناد غير هذا. انظر 2/328.(37/3)
وأخبرنا أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن المطوس، [عن المطوس](1)، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة، لم يجزه صيام الدهر )) (2).
فدل ذلك على تعظيمه صلى اللّه عليه وآله وسلم فضل صيام الدهر.
فأما النهي الوارد عن صيام الدهر، فهو محمول على أحد الوجهين: إما أن يكون المراد به إذا صام العيدين، وأيام التشريق، أو يكون المراد بالنهي مَن خشي أن يضر بجسمه، ويؤديه إلى الإخلال بسائر الواجبات، ومن كان كذلك، فإنا نكره صيام الدهر له؛ إذ قد بينا فيما تقدم أن كل مستحب يُخشَى منه أن يؤدي إلى الإخلال بالواجب، مكروهٌ، ولأن أيام الدهر ـ خلا ما ذكرناه من العيدين وأيام التشريق ـ إذا ثبت أنه مستحب على الانفراد، وجب أن يكون مستحباً على الجمع، كأيام شعبان وغيره.
وقلنا: لا يجوز صيام أيام العيدين وأيام التشريق، لما:
روي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن صيام يومين، يوم الفطر، ويوم /121/ الأضحى. ولما:
روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من النهي عن صيام أيام التشريق وقوله: (( إنها أيام أكل وشرب )).
وقلنا: يستحب صوم أيام البيض، لما:
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/347.(37/4)
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا حبان، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن قتادة القيسي، عن أبيه، قال: كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يأمرنا أن نصوم ليالي(1) البيض، ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر. معناه: أيام ليالي البيض. وقال(2): ((هن كهيئة الدهر))(3).
وأخبرنا أبو بكر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا أحمد بن هارون، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن يحيى بن بسام، عن موسى بن طلحة، عن أبي ذر، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، قال: (( من كان صائماً من الشهر ثلاثاً، فليصم أيام العشر، وأيام البيض )).
وقلنا: يستحب صيام المحرَّم، لِما:
رواه أبو داود في (السنن) بإسناده عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر اللّه المحرَّم، وإن أفضل الصلاة بعد المكتوبة، صلاة الليل )).
وقلنا: يستحب صيام رجب، وشعبان، لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام: ((شعبان شهري، ورجب شهرك، ورمضان شهر اللّه )) (4).
ولما روى ابن أبي شيبة بإسناده، عن أنس قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أفضل الصيام فقال: (( صيام شعبان تعظيماً لرمضان )).
وروى أبو داود في (السنن) عن عائشة قالت: ((كان أحب الشهور إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان)*).
وقلنا: يستحب صيام يوم الإثنين والخميس لما:
__________
(1) ـ في (أ): أيام.
(2) ـ في (أ): قال.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/81 وفيه حمام بدل همام.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/346 وإسناده:ـ يزيد بن هارون، حدثنا صدقة موسى، أنبأنا ثابت البناني، به.(37/5)