قيل له: لأنا وجدنا الكفارات إنَّما تلزم فيما يكون المنع منه حقاً للمقتول، أو أمراً يختص القاتل، وقيم المتلفات تجب على غير هذين الوجهين، فوجدنا استهلاك الصيد في الحرم أشبه بالاستهلاك(1) الواجب للقيمة منه بالاستهلاك للكفارة، على أن القياس المجمع على صحته أولى من القياس المختلف في صحته، ولا خلاف [في] (2) أن إثبات القيم قياس /242/ جائز، واختلفوا في إثبات الكفارة قياسنا، فصار قياساً متفقاً على جوازه، فكان أولى، على أن الأصل في الضمانات، والاستهلاكات، القيم دون ما سواها، فكان ما ذهبنا إليه أجرى على الأصول، فوجب أن تكون القيمة هي اللازمة فيه، وإن جزاء الصيد الذي يقتله المحرم ليس بعوض له، بل هو كفارة فعله؛ لأن قتل الصيد في غير الحرم مباح، وإنَّما حُظِر على المحرم لإحرامه، وليس كذلك الصيد في الحرم؛ لأنَّه غير مباح فيه على وجه من الوجوه.
فإن قيل: [لم] (3) أجزتم جزاءه في باب اللزوم، والأذى، مجرى الكفارات، فأوجبتموه على الدال، وأوجبتموه تاماً على كل واحد من المشتركين فيه على ما ذهب إليه مالك؟
__________
(1) ـ في (ب): باستهلاك الموجب.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ سقط من (أ).(45/34)
قيل له: لأنا وجدناه في باب الأذى، واللزوم، بالكفارات أشبه منه بالضمانات؛ لأنا وجدناه لا يتوجه على القاتل المطالبة، فلا مساغ فيه للأبراء والصفح، فوجب أن يكون سبيله سبيل الكفارات، على أنه لا خلاف أن في الأذى يجري مجرى الكفارات؛ لأن الشافعي يجعله كفارة في التقدير واللزوم والأذى، وأبو حنيفة يجعله في حيز الكفارة أيضاً؛ لأنَّه يجوز فيه الهدي، وإن اختلفت الرواية عنه في حكم الهدي، فلا معتبر بامتناع من إجراء سمة الكفارة عليه إذا جعل حكمه حكمها، على أنا وجدنا الأذى فيه في حكم أذى سائر الحقوق الَّتِي هي لله تعالى، فذلك أجريناه مجرى الكفارات. وقلنا: إن المحرم إذا قتل صيداً في الحرم لا يسقط عنه القيمة؛ لوجوب الجزاء، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي، وموافقة لزيد بن علي عليهما السلام؛ لأنا وجدنا جهتي وجوبهما مختلفتين على ما بيناه، فوجب أن تلزمه القيمة مع الجزاء، قياساً على المحرم إذا قتل صيداً مملوكاً في أنَّه يلزمه القيمة مع الجزاء، وقياساً على من قتل عبداً لغيره في أنَّه يلزمه القيمة مع الكفارة، والعلة أنَّه اختلاف الوجهين ووجوبهما(1)، ويقال لأبي حنيفة: قد اتفقنا أن القارن إذا قتل صيداً، فعليه جزاءان، فكذلك إذا قتله المحرم في الحرم، والمعنى أنَّه هتك حرمتين، على أن أبا بكر حكى في (شرح الناسك) لمحمد، عن أصحابهم، أنهم قالوا: إن القياس أوجب(2) أن القيمة لا تسقط الجزاء، لكنهم أسقطوه استحساناً، على أنا وجدنا الأصل في حقوق الأموال لا تداخل فيها، وإن بعضها لا يسقط بعضاً، فكان ما ذهبنا إليه أولى، وفيه إيجاب، واحتياط، فهو أولى، وقد مضى الكلام فيما يجب بالإفزاع.
مسألة [في المفرد، والقارن، والحلال يشتركون في قتل صيد في الحرم]
__________
(1) ـ في (ب): في وجوبهما.
(2) ـ في (ب): يوجب.(45/35)
قال: ولو اشترك مفرد، وقارن، وحلال، في قتل صيد في الحرم، فعلى القارن جزاءان، وقيمة الصيد، وعلى المفرد جزاء واحد، والقيمة، وعلى الحلال القيمة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)(2).
وقد بينا أن الذي يلزم لحرمة الحرم هي القيمة، وأن سبيلها في باب اللزوم، والأذى، سبيل الكفارات، وسنبين الكلام بعد هذه المسألة في أن على القارن جزاءين، والذي يجب أن يُبين في هذا الباب هو أن الجماعة من المحرمين لو اشتركوا في قتل صيد، فعلى كل واحد منهم جزاء واحد، وهو قول الشافعي.
والدليل على ذلك قول الله(3) تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ} و((من)) من ألفاظ العموم الموجبة للاستغراق، فاقتضى العموم إيجاب الجزاء على كل من يحصل قاتلاً للصيد وهو محرم، اجتمعوا، أو تفرقوا.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/ 325 وهو بلفظ قريب، ونصه في الظبي.
(2) ـ انظر المنتخب 100 وهو بلفظ قريب كالأحكام.
(3) ـ في (ب): قوله تعالى.(45/36)
فإن قيل: فإن الله تعالى أوجب فيه جزاء واحداً بقوله: {فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ}، فوجب أن يكون الذي يلزم لقتل كل صيد جزاء واحداً على كل قاتل صيد، بقوله: {فَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءُ}، كما أوجب على كل قاتل مؤمن رقبة، بقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ} فكان الحكم راجعاً إلى كل واحد من القاتلين، فكذلك المذكور في آية الصيد، يبين ذلك أن قائلاً لو قال: من دخل الدار، ألبسته ثوباً، كان الثوب المذكور ـ وإن كان واحداً ـ راجعاً إلى كل من دخل الدار، ولم يجب أن يشترك جماعة الداخلين في الثوب الواحد، فكذلك يجب أن يكون جزاء الصيد، على أن الجزاء مصدر، وهو لا يختص بعدد، فلا معنى لقولهم أنَّه أوجب مِثلاً واحداً، ومما يدل على ذلك أنَّه كفارة قتل، فوجب أن لا يقع فيها الاشتراك، دليله كفارة قتل المؤمن.
فإن امتنعوا من إطلاق اسم الكفارة عليه، كان ذلك باطلاً، لقوله تعالى: {أَوْ كَفَارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِيْنَ} ولا خلاف أن عِدةً من المحرمين لو اجتمعوا على عدة من الصيد، فقتل كل واحد منهم صيداً، أنَّه يلزم كل واحد منهم جزاء، فكذلك لو اجتمعوا، والصيد واحد، والعلة أن كل واحد منهم أدخل نقص الصيد على إحرامه، فوجب(1) أن يلزمه جزاء كامل، ومما يبين صحة هذا العلة، أنا قد علمنا أن الاعتبار إنَّما هو بالنقص الداخل على الإحرام، ألا ترى أن المانع من القتل هو حرمة الإحرام. وأن حلالاً لو شارك المحرم في القتل، لم يكن على الحلال شيء؟
فإن قيل: على القياس الأول، ما أنكرتم أن ذلك لا يجوز أن يكون كفارة؛ لأنَّه يزيد وينقص بحسب المقتول، ولا يستقر على أمر واحد؟
__________
(1) ـ في (أ): وجب.(45/37)
قيل له: هذا الاعتبار يرده النص، على أنَّه لا يمتنع أن تكون الكفارة تزيد وتنقص، وإن كان فيها ما لا يزيد، ولا ينقص، كما أن في غير الكفارة ما لا يزيد، ولا ينقص، وقياسنا يقتضي الإيجاب، والاحتياط، ومزية القرب، فكان أولى.
مسألة [في القارن إذا فعل شيئاً من محظورات الإحرام، كم عليه من الجزاء؟]
قال: والقارن إذا قتل صيداً في غير الحرم، فعليه جزاءان، وكذلك إن لبس ما لا يجوز له لبسه، أو تداوى بدواء فيه طيب، فعليه في كل ذلك جزاءان.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب) (2). وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك، والشافعي، عليه جزاء واحد.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/321، 325 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 100 وذكر فيه جزاء الصيد فقط.(45/38)