أما النعامة فأوجبنا فيها البدنة، لما رويناه فيما مضى عن أمير المؤمنين عليه السلام، وعمر، وغيرهما، ولم يختلفوا فيه. وأوجبنا في بقرة الوحش بقرة؛ لأنها أشبه الحيوان بها خلقةً وهيئة، وروى ذلك عن كثير من العلماء. وقلنا: إن في حمار الوحش بقرة؛ لأن خلقه بخلق البقرة أشبه منه بخلق البعير، والناس فيه على أحد القولين(1) ـ أعني الذين اعتبروا الخلقة ـ فقائل قال فيه بدنة، وقائل قال: فيه بقرة، ووجدنا البقرة أشبه، فأوجبنا فيه بقرة، على أنا وجدنا بقرة وحش، خيراً من حمار وحش، فلم نوجب فيه أفضل مما أوجبنا في البقرة [الوحشية] (2)، وليس يعترض علينا إيجابنا البدنة في النعامة؛ لأن النعامة لم(3) يختلف فيها، وليس يتجاذبها في الشبة البدنة والبقرة، بل كانت بالبدنة أشبه، فلذلك أوجبنا فيها البدنة، على أن القائلين فيه بالبدنة يجوز أن يكونوا أرادوا بذلك البقرة؛ إذ البقرة يعبر عنها باسم البدنة، إذ روى في بقر الوحش بدنة، ومن البعيد أن يكون المراد به الجزور مع القول باعتبار الخلقة في الجزاء وظهور الشبه بين البقر، وبقر الوحش. وقلنا في الظبي شاة، لما رويناه عن السلف فيه؛ ولأنه أشبه الصيد بالشاة، خلقة وهيئة، وكذلك قلنا في الوعل للشبه الذي ذكرناه، والثعلب ـ أيضاً ـ فقد روي فيه ذلك. وأما الحمام، فقد روي عن عدة من الصحابة أن فيه شاة، وروي ذلك عن أمير المؤمنين كرم(4) الله وجه ولا خلاف فيه يبن القائلين باعتبار الخلقة، والقمري والدبسي ونحوهما، فقد(5) روي ذلك عن ابن عباس على ما سلف القول فيه، وروي عن عمر وعبد الله في اليربوع ما ذكرناه، وروي /240/ عن عمر في الضب مثله على ما قدمناه، والضبع قد ذكرنا فيما مضى ما ورد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أمير المؤمنين، ثُمَّ عن سائر الصحابة، واعتبرنا فيه
__________
(1) ـ في (ب): قولين.
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ في (أ): لا.
(4) ـ في (ب): عليه السلام.
(5) ـ في (ب): قد.(45/29)


الفَرْس لما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام فيما مضى؛ ولأنه لا خلاف أن الضبع وغيره من السباع إذا عدا على المحرم، وخشي المحرم ذلك، فلا شيء عليه في قتله.
مسألة [في حكم دلالة المحرم على الصيد]
قال: وإذا دل المحرم غيره على الصيد، فقتله بدلالته، فعليه الجزاء. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب)(2). وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء، والشعبي.
والدليل على ذلك: ما رواه هناد ـ بإسناده ـ أن امرأة جاءت إلى ابن عباس رضي(3) الله عنه فقالت: إني رأيت أرنباً، وأنا محرمة، فأشرت إلى الكِرَي، فقتلها، فحكم ابن عباس عليها بالجزاء.
وروى ـ بإسناده ـ أن محرَمين أحاش أحدهما ضبياً، قتله وقلته الآخر، فحكم عليهما عمر، وعبد الرحمن بن عوف، بشاة شاة.
وروى ـ بإسناده ـ عن نافع، عن ابن عمر قال: ((المحرم لا يشير [إلى الصيد](4) ولا يصيد ولا يدل عليه)) وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: ((لا يقتل المحرم الصيد، ولا يشير إليه، ولا يدل عليه)). فلما ثبت ذلك عنهم، ولم يُروَ عن أحد من الصحابة خلافه، كان إجماعاً، ويؤكد ذلك ما في حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: هل أشرتم؟، هل أعنتم؟ ولا وجه إلاَّ إيجاب الجزاء عندنا، إذ قد ثبت انه لا تأثير لعدم الإشارة والإعانة في جواز الأكل، فكل ذلك يدل على وجوب الجزاء على الدال، ومما يدل على ذلك أنا لا نختلف أن مُحرِماً لو أمسك الصيد حتَّى يقتله الحلال، أن عليه الجزاء، فكذلك الدال؛ لأن كل واحد منهما قد فعل السبب المؤدي إلى قتله.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/325 وزاد وقيمته.
(2) ـ انظر المنتخب 100 وهو بلفظ مقارب.
(3) ـ في (ب): رحمه الله.
(4) ـ سقط من (ب).(45/30)


فإن قاسوه على من دل آخر على قتل رجل حتَّى قتله، أن الضمان على القاتل دون الدال؛ بعلة أنَّه لم يفعل إلاَّ الدلالة، كان قياسنا أولى؛ لأن موضوع جزاء الصيد أن يلزم بالسبب والإعانة، ألا ترى أن المحرِم لو طرد صيداً مع الحلال، وقتله الحلال، أنَّه يلزم(1)؟ الجزاء، وليس كذلك حال الإنسان، فإن رجلين لو تعاونا على قتل رجل، وباشر القتل أحدهما، كان الضمان على المباشر دون من أعانه، وليس كذلك الحال في الصيد، فلما كان الأمر على ما وصفنا، وكان قياسنا أذهب في الباب الذي وضع عليه جزاء الصيد، فكان أولى، ومما يؤكد ما ذهبنا إليه: ما أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، حدثنا أبو بكر الدينوري، حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج، ومحمد بن غالب بن حرب، قالا: حدثنا عازم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن إبان بن تغلب، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي مسعود الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الدال على الخير كفاعله)). فجعل حكمَ الدال حكمَ الفاعل، فوجب أن يكون الدال على قتل الصيد كقاتله.
مسألة [في الصيد في الحرم ما يوجب؟ وهل يسقط الجزاء القيمة؟]
قال: وإن(2) كان في الحرم، فعليه القيمة مع الجزاء، فإن أُفزع بدلالته، أو إشارته، فعليه الصدقة بقدر ذلك، ولو أن محرماً قتل شيئاً مما ذكرناه في الحرم، فعليه قيمة ما قتل، مع الجزاء. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) و(المنتخب) (4).
اعلم أن هذه الجملة تشتمل على أن المحرم إذا قتل صيداً، فعليه الجزاء، وهذا مما لا خلاف فيه، ونطق به نص القرآن، وقد مضى الكلام /241/ فيه، وعلى أن قتل الصيد في الحرم يوجب القيمة، وهو الذي يخص هذا الموضع، وعلى أن وجوب الجزاء لا يسقط وجوب القيمة، وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ـ في (ب): ويلزمه.
(2) ـ في (ب): فإن.
(3) ـ انظر الأحكام 1/324 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 99 ـ 100 وهو بلفظ مقارب.(45/31)


والذي يدل على أنَّه لابد فيه من الضمان ـ خلافاً على ما حكي من قول داود أنَّه لا شيء عليه ـ ما رواه هناد بإسناده، عن عطاء، عن ابن عباس أنَّه قال في بيضتين من بيض حمام مكة درهم، ولا مخالف له في الصحابة، وـ أيضاً ـ وجدنا صيد الحرم قد مُنع من قتله لحق الغير منفرداً به عن المقتول، فوجب أن يكون مضموناً.
دليله الحيوانات الَّتِي لا يؤكل لحمها إذا لم يكن منها على أحد ضرر، سواء كانت ملكاً لأحد، أو لم تكن ملكاً، وذلك أن المنع من قتلها لا من شيء يرجع إلينا، وهو أنَّه لأمر يُفعل بها لا لعوض، فيكون ظلماً، وليس كذلك حال الصيد في الحرم؛ لأنَّه لو كان في غير الحرم، لجاز ذبحه، فالمانع من قتله ليس هو لأمر يرجع إليه، وإنَّما هو لأمر(1) يرجع إلى الحرم، فوجب أن يكون تعليلنا صحيحاً.
فإن قيل: ولِم قلتم إنَّه ممنوع من قتله في الحرم إذا كان القاتل حلالاً؟
قيل له: لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((هي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا يُنَفَّرُ صيدها)).
فإن قيل: أليس أصحابكم يقولون في الجمل إذا صال على إنسان، فقتله، لا يضمن، فكيف تصح علتكم؟
قيل له: نحن شرطنا في علتنا أن يكون المقتول ممنوعاً من قتله، وفي الحال الذي(2) ذكرتم لا منع من قتل الجمل، بل يصير قتله واجباً، فكيف يعترض ذلك على علتنا؟ فثبت بما ذكرنا، وجوب الضمان فيه.
__________
(1) ـ في (ب): أمر.
(2) ـ في (ب): التي.(45/32)


واختلفوا في ماهية ضمانه، فذهب الشافعي إلى أن ضمانه ضمان الصيد إذا قتله المحرم سواء، وهو قول مالك. وعن أبي حنيفة فيه روايتان، أحدهما الرواية المشهورة أنَّه مخير بين الهدي، والإطعام، وهو قول أبي يوسف. والرواية الثانية: ذكرها أبو بكر الجصاص في (شرحه المناسك) لمحمد، ذكر أن الحسن بن زياد، روى عن أبي حنيفة أن عليه الصدقة(1)، وأن الهدي لا يجزيه، إلاَّ أن يكون قيمته مذبوحاً حين تصدق به(2) قيمة الصيد. قال: وهو قول زفر، ولا خلاف عنه أنَّه(3) لا يجزي الصيام وهو قريب مما نص عليه يحيى عليه السلام.
والدليل على صحته أنَّه منع من ذبحه(4) واستهلاكه لحق الغير من دون أمر يختص القاتل، فوجب أن يُشهد لهذا الاعتبار بسائر الأموال الَّتِي تستهلك على أربابها في أن الواجب فيها هو القيمة.
فإن قيل: إن القياس إنما يسوغ ما لم يرفع النص، وهاهنا نص مخالف مذهبكم، وهو قول الله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية.
قيل له: إن المحرم إذا أطلق في عرف الشرع، عُقِل به من انعقد عليه الإحرام دون من يدخل الحرم، وإن كان لا يبعد أن يقال لمن أتي الحرم محرم من جهة اللغة، كما يقال: مُنَجِّد، ومُتَهِّم، لمن أتى نجد، أو تهامة، إلاَّ أن الخطاب الوارد عن الله تعالى يجب حمله على عرف الشرع، فإذا ثبت ذلك، لم يجب أن يكون من دخل الحرم مراداً بالآية، على أن الاسم لو كان يتناولهما على التحقيق، كان لا يمتنع أن يخصى منه الحلال إذا قتل صيداً في الحرم بالقياس الذي ذكرناه، ويقال لأصحاب أبي حنيفة: إذا قالوا بالرواية عنه المشهورة ـ في هذا الباب ـ لا نختلف أنَّه لا يجزي في جزائه الصوم، فوجب أن لا يجزي فيه غير القيمة، دليله صيد المملوك.
فإن قيل: فهلا قستموه على الكفارة بعلة أن المانع من قتله ليس بحق الآدمي؟
__________
(1) ـ في (ب): لصدقه.
(2) ـ في (أ): فيلزمه قيمة.
(3) ـ في (ب): أن الصيام لا يجزي.
(4) ـ في (ب): قتله.(45/33)

58 / 142
ع
En
A+
A-