وذهبت الإمامية إلى أَنْ لا جزاء على العائد؛ لأن الله تعالى ذكر الإنتقام [من العائد] (1) ولم يذكر الجزاء، وهو مذهب داود. والذي يدل على ما ذهبنا إليه عموم قوله سبحانه {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، وهذا عموم في العائد والمبتدئ، وتخصيصه سبحانه العائد وبالانتقام لا يمنع هذا العموم من الاستغراق، وهو ـ أيضاً ـ قياس على المبتدئ، بعلة أنَّه مُحْرِمٌ قتل الصيد متعمداً، والأصول شاهدة لقياسنا؛ لأن الجنايات لا تختلف أحكامها بالابتداء والعود، وهذا أكثر من أن يحصى.
مسألة [في الاستدلال على أن الاعتبار في الجزاء مماثلة الخلقة دون القيمة]
قال: فمن وجبت عليه بدنة، وأحب العدول عنها إلى الطعام، أطعم مائة مسكين، وإن اختار الصيام، صام مائة يوم، ومن وجبت عليه بقرة، واختار الإطعام، أطعم سبعين مسكيناً، وإن اختار الصيام، صام سبعين يوماً، ومن وجبت عليه شاة، واختار الإطعام، أطعم عشرة مساكين، وإن اختار الصيام، صام عشرة أيام. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3).
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ انظر الأحكام 1/322، 323، 324 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 99 وهو بلفظ قريب.(45/19)
وهذه الجملة مبنية على أن المماثلة المطلوبة في جزاء الصيد مماثلة الخلقة دون القيمة، فنبدأ الكلام فيه، فنقول الدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فجعل سبحانه جزاء الصيد المقتول ما كان مثلاً له، فالمثل إذا أطلق في اللغة والعرف، جميعاً أراد ما ماثل الشيء، وسدَّ مسدَّه فيما يختصه من هيئته، أو خلقةٍ، أو نحوهما، ولم يرد به الإستواء في القيمة، يكشف ذلك أن القيمة ليست مما يختص(1) المقوم، وإنَّما هو تقدير الْمُقدَّر، وفعله، واختباره، ولذلك(2) تختلف أحوالها بحسب اختلاف الناس في أنفسهم، وأمكنتهم، وأزمنتهم، وأيضاً قد فصل العلماء بين ذوات الأمثال، وذوات القيم لفظاً، كما فصلوا بينها معنىً، وحكماً، فبان أن المماثلة إذا أطلقت، لم تفد المساواة في القيمة، وبمثله نطق لسان الشرع حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((البر بالبر مِثلاً بمثل)) والمراد به المماثلة من جهة القلة والكثرة اللتين يختصانه دون القيمة، فإذا ثبت ما بيناه لغة، وشرعاً، وعرفاً، وجب أن يُحمل قوله تعالى: {فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} على ما ذكرناه في(3) الخلقة، وما جرى مجراها، دون القيمة.
فإن قيل: فقد قال كثير ممَّن ذهب إلى مذهبكم أن الْحَمَام مثل الشاة في العب(4) والهدير(5) وهما ليسا بخلقة، بل هما من جملة عاداتهما وأفعالهما، وإذا جاز أن يراد بالمماثلة ذلك، فَلِمَ لم يجز أن يراد بهما القيمة؟
__________
(1) ـ في (أ): يختص في المقوم.
(2) ـ في (ب): فلذلك.
(3) ـ في (ب): من.
(4) ـ العَبُّ: شرب الماء من غير مص كشرب الحمام والدواب. تمت قاموس
(5) ـ هدر الحمام: صوَّت، وهدر البعير ردد صوته في حنجرته. تمت قاموس.(45/20)
قيل له: قد بينا أن المماثلة بين الشيئين إنَّما تستعمل إذا سد أحدهما مسد صاحبه بأمر يختصه، وأن القيمة لا تختص من جُعلت له /236/ لأنها اختبار المقوِّم، وتقديره، وليس كذلك العب والهدير؛ لأنهما يختصان الحمام والشاء، وليس يمتنع أن نقول(1): فلان مثل فلان في عمله، وإقدامه، وكثرة فضله وبذله، وكل ذلك من جملة الأفعال والعادات، ولسنا نمنع أن المماثلة تفيدها، ولكن امتنعنا من أن تفيد القيمة؛ لما بيناه ، فإن استعملت في شيء من المواضع على معنى المساواة في القيمة، فهو على سبيل المجاز، والاستعارة.
فإن قيل: والمماثلة إن استعملت على الوجه الذي تذهبون إليه، وجب أن يدخلها التخصص(2)؛ إذ في الصيد ما لا مثل له في الخلقة، وما جرى مجراها، فإذا حملناها على التقويم، لم يجب أن يدخلها التخصيص؛ لأن التقويم ممكن، ومتأتٍ، في كل صيد، وحمل الآية على ما لا يوجب تخصيصها أولى من حملها على ما يوجب تخصيصها.
قيل له: وأنتم أيضاً فلا بد لكم من تخصيصها(3)؛ لأن من الصيد ما لا يبلغ قيمته قيمة شيء من النَعم، فلا بد من أن تخصوه، فإذا ساوينا في التخصيص لها على بعض الوجوه، كان ما ذهبنا إليه أولى؛ لأنَّه حقيقة المماثلة.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم المماثلة يجوز أن يراد بها في السِمَن، والعجف، والسن، وأنتم لا تقولون بذلك؟
قيل(4) له: خصصناه بدلالة الوفاق.
فإن قيل: فأنتم ترجعون فيما لا مثل له من جهة الخلقة ونحوها إلى التقويم، فثبت أن التقويم مراد بالمماثلة، فإذا(5) ثبت ذلك، لم يجب أن يكون غيرها مراداً بالآية، سيما على ما ذكرتموه من أن التساوي في القيمة يطلق عليه لفظة المثل مجازاً.
__________
(1) ـ في (أ): يقال.
(2) ـ في (ب): التخصيص.
(3) ـ في (أ) و (ب): تخصيصاً، والصواب ما أبتناه.
(4) ـ في (ب): قيل.
(5) ـ في (ب): وإذا.(45/21)
قيل له: هذا السؤال ساقط عنا؛ لأنا نُجَوِّز أن يراد باللفظة الواحدة المجاز، والحقيقة معاً، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا، على أنا لا نمنع أن يقال: إن حكم ما لا مِثل له من الأنعام من جملة الصيد في التقويم غير مأخوذ من الآية، فسقط السؤال.
فإن قيل: وأنتم تبطلون حكم ذوي عدل، وقد أمر الله تعالى به؛ لأن الاعتبار إذا كان بالخلقة، وما جرى مجراها، لم يحتج إلى الحكم.
قيل له: لسنا نخرج في شيء من ذلك عن حكم ذوي عدل؛ لأن الصيد ينقسم ثلاثة أقسام: إما أن يكون له مثل قد حكم به السلف، فيُرجع إلى حكمهم أو يكون له مثل، ولا يُحفظ عن السلف فيه شيء، فيرجع في طلب المماثلة فيه إلى حكم ذوي عدل في الزمان. أو يكون مما لا مثل له، فيرجع في التقويم إلى حكم ذوي عدل. فلم نخرج عنه في شيء من الأحوال.
فإن قيل: المماثلة الَّتِي تذهبون(1) إليه طريقها الحس وما جرى مجراه(2)، فلا يُحتاج فيها إلى حكم ذوي عدل.
قيل له: لهذا تفاصيل ودقائق لا يمتنع أن يحتاج لها إلى اجتهاد مجتهد، وحكم حاكم، على أنَّه لو كان الأمر على ما تقولون، كان لا يمتنع أن يَرِد الشرع به، كما أنَّه لم يمتنع إن ورد الشرع بأن لا يحكم الحاكم بكثير مما يعلمه، حتَّى تقَع الشهادة به عنده.
فإن قيل: فإنه جعل للمساكين، ولا حظ لهم في إعتبار الخلق.
__________
(1) ـ في (ب): ترحبون.
(2) ـ في (أ): مجراها.(45/22)
قيل له: لا يمتنع ذلك، ألا ترى إلى ما اشترط في الهدايا والأضاحي، من سلامه العين والأذن، وأن يكون من الأزواج الثمانية، وأن يكون لها سن دون سن، ولا حظ في شيء من ذلك للمساكين، ومما يدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا الحجاج بن المنهال، حدثنا جرير بن حازم، حدثنا عبيد الله بن عبيد بن عمير، حدثنا ابن أبي عمار، عن جابر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الضبع، فقال: ((هي من الصيد)) (1)، وجَعَل فيها كبشاً إذا أصابها المحرم. فلما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الضبع كبشاً من غير اعتبار قيمتها، ولا اعتبار الأحوال في الأزمنة والأمكنة، دل على أنَّه صلى الله عليه وآله لم /237/ يعتبر فيها القيمة، وإنَّما اعتبر فيها الخلقة.
فإن قيل: فإن بينه وبين الشاة في الخلقة فرقاً.
قيل له: من المعلوم أنَّه بالشاة أشبه منه بالبعير، والبقر، ألا ترى أنَّه مع بعض الالتباس يشتبهان عليه و[ليس](2) كذلك الضبع والبقر.
ومما نعتمده(3) في هذا الباب أنَّه إجماع الصحابة، يدل على ذلك: ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنَّه قال في النعامة: بدنة.
وروى ابن أبي(4) شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن ابن جريج، عن عطاء، أن عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، قالوا في النعامة بدنة.
وفي حديث زيد بن علي عليه السلام أن علياً عليه السلام قال في الظبي شاة.
وروى ابن أبي شيبة ـ بأسانيده ـ أن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، حكما في الظبي بشاة. وروى بإسناده أن عبد الرحمن، وسعداً، حكما في الظبي بشاة(5).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/164 وفيه عبد الله بن عبيد.
(2) ـ سقطت من (ب) وظنن عليها في الهامش.
(3) ـ في (ب): يعتمد.
(4) ـ أخرجه ابن ابي شيبة في المصنف 3/302 وزاد فيه ومعاوية.
(5) ـ في (ب): تيساً.(45/23)