قال: ولو أن محرمة خضبت يديها ورجليها في وقت واحد، فعليها فدية واحدة، وإن خضبت يديها، ثُمَّ خضبت رجليها، فعليها فديتان، وإن خضبت إصبعاً من أصابعها، فعليها في خضابها صدقة، نصف صاع من بر، وإن طَرَّفت أُنملة من أناملها، تصدقت بمقدار نصف مد، وكذلك إن طرفت أنامل يديها، أو بعضها، فعليها عن(1) كل أنملة خضبتها نصف مد. وإذا قصر(2) المحرم ظفراً، استُحِب له أن يتصدق بنصف صاع من طعام. جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (3).
__________
(1) ـ في (ب): في.
(2) ـ في (ب): قص.
(3) ـ انظر الأحكام 1/321 وهو بلفظ قريب.(45/14)
ووجه إيجاب الفدية في الخضاب أن الحناء طيب يُستَلذ رائحته، كما يستلذ برائحة الزعفران، ولا خلاف أن المحرم ممنوع من الطيب، وقد مضى القول فيه، وأيضاً أن الخضاب زينة، وعندنا أن المحرم ممنوع من الزينة بدلالة أنَّه ممنوع من اللباس، والمرأة ممنوعة من القفازين، ولما روي أن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال في أهل عرفة: ((إن الله يباهي بكم الملائكة يقول عبادي أتوني شعثاً غبراً)) والشعث والغبرة خلاف الزينة، فإذا ثبت ذلك، جرى الخضاب مجرى قص الأظفار، ومجرى اللباس، واستعزال الطيب، فقلنا: أنَّها إذا خضبت يديها، ورجليها، في وقت واحد، فعليها فدية واحدة، كما قلناه فيمن لبس لباس البدن كله في وقت واحد على ما بيناه. وقلنا: إن خضبت يديها، ثُمَّ خضبت رجليها، فعليها فديتان؛ لأن اليدين في حكم العضو الواحد، وكذلك الرجلين، ألا ترى أن حكم الرجلين في لبس الخف حكم عضو واحد، فكذلك قلنا إن خضاب اليدين، وخضاب الرجلين، إذا كانا في وقتين، وجب لهما فديتان. وقلنا: إن خضبت إصبعاً، فعليها صدقة، نصف صاع من بر؛ لأن نصف صاع قائم مقام عُشْر شاة في الجزاء، والأصبع الواحدة حكمها حكم عشر اليدين، وقدرنا تطريف الأنملة بربع الإصبع، فإذا زاد الخضاب، أو نقص، كان التقدير بحسابه. وقلنا في الظفر: إذا قصه المحرم نصف صاع لما بيناه في الخطاب، وليس ذكر الاستحباب فيه لنفى /234/ الوجوب، وإنَّما هو إشارة إلى أن التقدير فيه طريقه الاجتهاد، ويجب على هذا أن يكون حكم قص الأظفار كلها، اليدين، والرجلين ـ في وقت واحد، أو وقتين، حكم الخضاب على ما بيناه.
مسألة [في المحرم يتعمد قتل الصيد، وهو ذاكراً للإحرام أو ناسٍ له](45/15)
قال: ولو أن محرماً تعمد قتل صيد، ناسياً لإحرامه، أو ذاكراً له، فعليه الجزاء، والجزاء دم يريقه، أو إطعام، أو صيام. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2).
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ..} الآية.. وهذا مما لا خلاف فيه. وجعلنا له الخيار بين الكفارات الثلاث؛ لأن الآية تضمنت التخيير؛ إذ نسق بعضها على بعض بأو، مثل كفارات اليمين الثلاث. وقد اختُلف فيه إذا قتله خطأ، فذهب القاسم إلى أنَّه لا جزاء فيه، وعليه يدل كلام يحيى عليه السلام، وحُكِى أنَّه مذهب صاحب الظاهر، وحكاه ابن جرير في (الاختلاف) عن أبي شور.
ووجهه أنَّه قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلُهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ} فأوجب الجزاء بشرط التعمد، فكان ذلك دليلاً على أنَّه لا جزاء مع فقد التعمد الذي هو شرط فيه.
فإن قيل: ألستم توجبون الكفارة على قاتل العمد، وإن كان النص ورد في قاتل الخطأ، فما تنكرون على من أوجب الجزاء على قاتل الصيد خطأ، وإن كان النص ورد في العامد؟
قيل له: لا يمتنع أن يَرِد النص في الأدنى، فيُعرَفُ به حال الأعلى، وليس كذلك إذا ورد في الأعلى؛ لأنَّه لا يقتضي التنبيه على الأدنى؛ ولأنه قَتلٌ يصدر عنه حكم يختص نفس القاتل، فوجب أن لا يستوي عمده وخطؤه، فيما يقتضيه القتل، دليله قتل المسلم.
فإن قيل: قتل العبد يعترضه؛ لأنَّه يستوي [فيه](3) خطؤه وعمده، لأنكم لا توجبون فيه القصاص، وإنَّما توجبون فيه القيمة، وهو يستوي فيه العمد والخطأ؟
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/322 وفيه أن المتعمد وهو ذاكر للإحرام يجب عليه التوبة مع الجزاء.
(2) ـ انظر المنتخب 98 ـ 99 وفيه أيضاً ما في الأحكام.
(3) ـ سقط من (أ).(45/16)
قيل له: تحصيل(1) الافتراق من وجه آخر، وهو أن القيمة في العمد من ماله، وفي الخطأ على عاقلته، فلم يحصل الاستواء.
فإن قيل: فنحن ـ أيضاً ـ نقول أن حكم العمد والخطأ في قتل الصيد لا يستوي؛ لأن التوبة تلزم مع العمد، ولا تلزم مع الخطأ؟
قيل له: نحن إنَّما أوجبنا ألا يحصل التساوي فيما يوجبه القتل، والتوبة لا تجب للقتل، وإنَّما تجب لوقوعه على وجه قبيح مع أوصاف مخصوصة، ألا ترى أن كل فعل وقع على وجه يقبح، اقتضى التوبة؟ والقتل إذا تعرى من ذلك، لم يوجب التوبة، فبان أنَّها ليست مما يقتضيه القتل. ويقال لأصحاب الشافعي: هو قياس على من لبس مخيطاً، أو تطيب، بمعنى أنَّه فِعْلٌ حظره الإحرام، ولا يقع به فساد الحج، فوجب ألا يلزمه فيه الجزاء إذا وقع على وجه الخطأ، على أنَّه قد حكي عن الشافعي أن المسألة عنده على قولين، وحكى القطبي في (مسائل الخلاف) أن الشافعي عَلَّق القول فيه، وقياسهم في هذا الباب يضعف؛ لأنَّه يرفع حكم النص؛ لأن النص جعل العمد شرطاً فيه، وهم يرفعون ذلك قياساً.
فإن قيل: ألستم تقيسون قاتل العمد على قاتل الخطأ في إيجاب الكفارة، وإن كانت الآية وردت في قتل(2) الخطأ فما تنكرون مِنْ قياسنا قاتل الخطأ في جزاء الصيد على قاتل العمد؟
__________
(1) ـ في (ب): يحصل.
(2) ـ في (ب): قاتل.(45/17)
قيل له: مِن أصحابنا مَن منع ذلك، ولم يوجب على قاتل العمد الكفارة، فيسقط(1) عنه هذا السؤال، فأما نحن فنرى الكفارة تلزم قاتل العمد، وقاتل الخطأ، ونفصل بين الموضعين بما مضى آنفاً في صدر هذه المسألة، وهو أن النص الوارد في حكم أدنى الأمرين من جنس واحد يكون منبهاً على حكم الأعلى منهما، إذا تضمن /235/ التغليظ، وما جرى مجراه، كما أن قوله تعالى: {وَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} يقتضي النَّهي عن الضرب والشتم لهما، وكما(2) أن نهيه عن البول في الماء الراكد، يقتضي النَّهي عن التغوط فيه، وإذا كان ذلك كذلك، لم يجب أن يضعف القياس الموجب لإلحاق حكم الأعلى بالأدنى، وليس كذلك النص الوارد في حكم أعلى الأمرين؛ لأنَّه لا يقتضي التنبيه على حكم الأدنى منهما، على أن قياسنا يستند إلى قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلِيْكُمْ فِيْمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وحكي عن مجاهد أنَّه كان يقول: لا جزاء على العامد؛ لأن جرمه أعظم من أن يُكَفِّر، وذلك ساقط فجميع(3) ما ذكرناه، ورتبناه، من مقتضى الآية. ولم يفصل يحيى ـ عليه السلام ـ بين العائد ـ والمبتدئ، فاقتضى ظاهر كلامه أنهما نسِيَّان في الجزاء، وحكى ذلك أبو العباس الحسني، عن محمد بن يحيى عليهم السلام، وهو الصحيح.
__________
(1) ـ في (ب): فسقط.
(2) ـ في (ب): كما.
(3) ـ في (أ): لجميع.(45/18)