وروى ابن أبي(1) شيبة ـ بإسناده ـ عنه أنَّه قال في المكرهة يستكرهها زوجها حتَّى يواقعها، فحجها من ماله.
وحكى نحو ذلك أبو بكر الجصاص (في شرح المناسك) لمحمد، عن الأوزاعي. وروي نحوه هناد بإسناده، عن الحسن، وهو إطلاق المزني، عن الشافعي، وحكى أبو علي بن أبي هريرة أن أصحاب الشافعي اختلفوا في تفسير ذلك الإطلاق، فذهب بعضهم إلى أنَّه يغرم نفقتها، وذهب بعضهم إلى أنَّه يُصَيِّر لها محرماً لتحج.
ووجه ذلك أن الزوج هو الْمُتلِف عليها حين اكرهها، فوجب أن يضمن كما(2) لو أتلف عليها غير ذلك من مالها، أو غَرَّمها بالشهادة عليها ما لا يلزمها، ضمن.
فإن قيل: منفعة الوطء قد حصل لها، فلا يجب للزوج أن يضمن غرامته.
قيل له: هذا ينتقض بالرجل يحرق للمرأة مالاً ثميناً بحضرتها مع كراهتها، فإن(3) حصل لها بذلك بعض الترفيه، على أن وطئها لو كان نفعاً لها حكماً، ما كان يجوز أن يستحق عليه العوض؛ لأن الإنسان لا يستحق العوض على ما يناله من النفع.
فإن قيل: أليس الزوج لو وطء امرأته في شهر رمضان، ثُمَّ عجزت عن القضاء، لم يلزمه أن يغرم عنها الفدية، فما أنكرتم أن لا يغرم نفقة الحج.
قيل له: إن الفدية هي بدل القضاء، وهو لم يتلف الفدية نفسها، ولا هي بدل من فساد صومها، فلم يجب أن يغرمها الزوج، وليس كذلك النفقة؛ لأنَّه بالوطء قد أتلف نفقتها، فيجب أن يَغرَمها، ويقال لمن أنكر ذلك من أصحاب الشافعي قد اتفقنا على أن للزوج أن يغرم عنها ما يلزمها من البدنة، فكذلك النفقة، والمعنى أن كل واحد منهما غُرْمٌ، لزم بسبب ذلك الوطء، وليس للمخالف أن يقيس الإكراه في ذلك على الطوع؛ لأنها إذا طاوعت، فقد رضيت بأن يتلف عليها، فلا يضمن المتلف.
مسألة [في المحرم يجامع أهله طوعاً، أو كرهاً]
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/186، وإسناده: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حماد، عن حجاج، به.
(2) ـ في (ب): كما أنه.
(3) ـ في (ب): وإن.(45/9)


قال: وإن كانت طاوعته، فعليها ـ أيضاً ـ بدنة، وإن كان الزوج غلبها على نفسها، لم يلزمها البدنة، ولزمت زوجها [عنها] (1). نص في (الأحكام)(2) على أنَّها إن كانت تطاوعته، فعليها من الكفارة مثل ما عليه. ونص في (المنتخب)(3) ـ أيضاً ـ على أنَّها إن كانت طاوعته، فعليها البدنة، ونص فيه على أنَّها إن لم تكن طاوعته، وكان زوجها أكرهها، كان على الزوج بدنتان، بدنة عنها، وبدنة عن نفسه. أما إيجاب البدنتين، فهو قول أبي حنيفة. قال الشافعي: ويجزي عنهما بدنة واحدة.
والأصل فيما ذهبنا إليه قول أمير المؤمنين عليه السلام ((على كل واحد منهما بدنة)).
ولا خلاف أن الزوج يلزمه بدنة بدلالة أنَّه لو جامع من ليست بمُحْرمة، كان(4) البدنة لازمة له، فكانت العلة فيه مصادفة جماعه إحراماً مطلقاً، فوجب أن يلزم المرأة أيضاً بدنة لمشاركتها إياه في العلة الموجِبة، ولا خلاف(5) أن المرأة ـ أيضاً ـ لو كانت محرمة، ولم يكن الزوج محرماً، فوطئها لكان يلزمها دم، فكذلك إذا كان الزوج محرماً، والعلة ما ذكرناه، يوضح ذلك، ويؤكده، أن الدم تعلق بهتك حرمة الإحرام، فوجب أن يستوي فيه حال الاجتماع، وحال الانفراد، ألا ترى أنهما لو تطيبا، أو لبسا، لزم كل واحد منها جزاءً على الانفراد؟ فكذلك إذا جامع /232/ على أنا وجدنا سائر أحكام الوطء يلزم كل واحد منهما على الانفراد، من(6) فساد الحج، ووجوب قضائه، وكذلك الاغتسال، والحد إذا كان الوطء زنىً، فوجب أن تكون الكفارة كذلك.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون سبيل الكفارة سبيل النفقة(7) والمهرة في أنَّها تلزم الزوج دونها؛ لأنها حق في مال؟
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ انظر الأحكام 1/299 وهو بلفظ قريب، ونص فيه أن لا كفارة على المكرهة.
(3) ـ انظر المنتخب 104 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (أ): كانت.
(5) ـ في (ب): ولا خلاف أيضاً أن المرأة لو.
(6) ـ في (أ): عن.
(7) ـ في (ب): المهر والنفقة.(45/10)


قيل له: إنَّما كان ذلك كذلك؛ لأنهما حق للمرأة، ولا يصح أن يلزمها حق نفسها، وما ذكرناه حق الله تعالى فأشبه سائر ما ذكرناه في أنَّه يلزم كل واحد منهما على الانفراد.
فأما ما ذهبنا إليه من أن الزوج إذا استكرهها لزمته بدنة عن نفسه، وبدنة عنها، فهو(1) قول الشعبي، وعطاء، روى ذلك عنهما ابن أبي شيبة ، وقالا: إن كانت مطاوعة فعلى كل واحد منهما بدنة، وإن كانت مستكرهة، فعلى الزوج بدنتان، بدنة عنها، وبدنة عن نفسه. وهو أيضاً تحصيل مذهب الشافعي في النيابة؛ لأنَّه وإن أوجب بدنة واحدة، جعلها عنهما وألزمها الزوج دونها، إلاَّ أنَّه لا يفصل بين المطاوِعة والمستكرَهة. وقال أبو بكر الجصاص في (شرحه المناسك) لمحمد: رأى بعض أصحابنا أن المرأة ترجع على الزوج بما لزمها من الدم.
ووجه هذه المسألة ما تقدم في إيجابنا على الزوج نفقة زوجته إذا أفسد بالوطء حجتها، فلا غرض في إعادته.
مسألة
قال: فإذا حجا في السنة الثانية، لزمهما الافتراق إذا صارا إلى الموضع الذي أفسدا فيه الإحرام، والافتراق ألاَّ يركب معها في مَحمَل، ولا يخلو معها في بيت، ولا بأس أن يكون بعيرها قاطراً إليه، أو يكون بغيره قاطراً إليها. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2) و(المنتخب)(3). وهو قول أمير المؤمنين [علي](4) عليه السلام، وقول عمر، وابن عباس، ولم يرو عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، فجرى مجرى الإجماع، وهو قول ابن المسيب، وعطاء، والحكم، وحماد، وهو أحد قولي الشافعي، ولا وجه لإبطال اجتهاد إذا ثبت عن عدة من الصحابة من غير أن روي عن أحد خلافه منهم سيَّما وعندنا أنَّما ثبت عن علي عليه السلام، وجب القول به، على أنَّه لا يمنع(5) أن يكون ذلك ضرباً من العقاب؛ إذ هو من جنس التغريب.
__________
(1) ـ في (ب): وهو.
(2) ـ انظر الأحكام 1/99م وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 104 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ سقط من (ب).
(5) ـ في (ب): منع.(45/11)


فإن قيل: وأنتم توجبون ذلك، وإن جامعا ناسيين.
قيل له: لا يمتنع أن يثبت ذلك في الأصل على سبيل العقوبة، ثم يلزم من لا يلزمه العقوبة، كما نقول في إيجاب الحد على التائب، على أنه لا يمتنع، أن يكون ذلك يجب للإحتياط وخشية أن يقع منهما المعاودة.
فإن قيل: هذه الخشية قائمة وإن لم يكن وقع منهما جماع.
قيل له: إلاَّ أنَّها خشية لا أمارة عليها، وإذا(1) فعلا ذلك مرة، حصلت هذه الخشية أمارة، كشهادة الزور، إذا لم تقع ممَّن ظاهره الستر، لم تتوجه التهمة بها عليه، وإذا وقعت مرة، وجهت التهمة إليه، فأما قولهم إن التفرق ليس بنسك، فلا وجه لإلزامه، فمما لا معنى له؛ لأنَّه لا يمتنع أن يلزم وإن لم يكن نسكاً على أنَّه لا يمتنع أن يكون نسكاً في حال دون حال، وعلى وجه دون وجه، وكذلك الرمي والحلاق.
مسألة [في المحرم يُقبل فيمي، أو يمذي، أو يلتذ]
قال: ولو أن محرماً قَبَّل، فأمنى فعليه بدنة، وإن أمذى، فعليه بقرة، وإن لم يكن من ذلك شيء، وكان مع القبلة شهوة، وحركة لذة فعليه شاة، وإن قبل لغير شهوة، لم يلزمه شيء، وإن حمل المحرم امرأته وكان منه لحملها حركة لذة، فسبيلها سبيل القبلة في المني، والمذي، وغيرهما. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2) و (المنتخب) (3). ولا خلاف أن المحرم إذا قبل لشهوة، فعليه دم.
وروى ابن أبي شيبة(4) عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر، عن علي عليهم السلام، قال: إذا /233/ قبَّل المحرم امرأته، فعليه دم.
وروى نحوه بإسناده، عن ابن المسيب [و] (5) وعن ابن سيرين والشعبي، وعبد الرحمن بن الأسود.
__________
(1) ـ في (أ): فإذا.
(2) ـ انظر الأحكام 1/311 ـ 312 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر المنتخب 103 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/138.
(5) ـ ما بين المعكوفين سقط من (ب).(45/12)


فإذا ثبت ذلك في القبلة بالإجماع، كان الغمز، واللمس مثلها؛ إذ الحكم في ذلك لا يتغير في سائر المواضع؛ ولأن العلة فيها أنَّها لمس بالشهوة، فلما ثبت أن في القبلة، والغمز ـ إذا كانا عن شهوة ـ دماً، وكان أقل الدم شاة، أوجبناها فيهما.
وقلنا: إن في المذي بقرة؛ لأن القبلة الَّتِي تؤدي إلى خروج المذي أغلظ حكماً من القبلة الَّتِي لا تؤدي إليه، ووجدنا الكفارات في الحج مبنية على أن الجناية كلما كانت أغلظ، كانت الكفارة أغلظ، وكذلك، عامة العبادات، فلما كان ذلك كذلك أوجبنا في القبلة الَّتِي تؤدي إلى خروج المذي بقرة؛ لنكون قد غلظنا الكفارة بحسب غلظ الجناية، ولهذه الطريقة قلنا: إن من أمنى وجبت(1) عليه بدنة؛ لأن خروج المني أغلظ حكماً في جميع الأحكام من خروج المذي، ولم يوجب فساد الحج بالإمناء على ما حكي عن مالك وعطاء؛ لأن فساد الحج أقصى غاية التغليظ، فلم نوجبه إلاَّ بما يكون أقصى غاية الجناية في بابه، ووجدنا الجماع أغلظ من الإمناء؛ لأنَّه يتعلق بالجماع أحكام لا تتعلق بالإمناء، نحو الحدود، والصداق، فلم يلحق حكم الإمناء به، ولا فصل في جميع ما ذكرناه بين القبلة واللمس على ما بيناه. وقلنا: إن القبلة، واللمس، إذا لم يكونا لشهوة، فليس على المحرم لهما شيء؛ لأنه مُنِع من فعلهما على سبيل الشهوة؛ ولأنهما إذا لم يكن معهما شهوة، كان ذلك كلمس الجمادات، والبهائم، أو نحوها، فلا يلزمه شيء.
مسألة [في المحرمة تخضب يديها ورجليها، أو أصبعاً، وفي المحرم يقص ظفراً]
__________
(1) ـ في (ب): وجب.(45/13)

54 / 142
ع
En
A+
A-