وكذلك القول إن لبس قلنسوة، ثُمَّ لبس عمامة، أو مغفراً، أو غيرهما. وكذلك القول في الخف، والجورب، وإن لبس شيئاً من ذلك لعلة، أو سبب، فله أن يلبس إلى أن يخرج عنه، ولا يلزمه(1) إلاَّ فدية واحدة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2). قلنا: إنَّه إن لبس ثوباً بعد ثوب، لم يلزمه للثاني فدية؛ لأنَّه لا يكون مغطَياً به، والمأخوذ عليه ترك التغطية، فإذا غطى رأسه، أو بدنه، أو قدميه بالأول، لم يكن للثاني حكم. وقلنا: إنَّه إن لبس شيئاً من ذلك لعلة، فله لبسه إلاَّ(3) أن يخرج منها، ولا يلزمه له إلاَّ فدية؛ لأنَّه أبيح له اللبس بشرط الفدية عند العلة، فيحصل اللبس مباحاً له على الوجه الذي بيناه، على أنا لو قلنا خلاف ذلك، لأوجبنا عليه للبّس في كل ساعة فدية، بل في كل لحظة، وذلك لا يُضبط، ويؤدي إلى المشقة العظيمة.
مسألة [في المحرم بجامع أهله]
(فإن جامع المحرم أهله، فقد أبطل(4) إحرامه، وأفسد حجه، وعليه أن ينحر بدنة بمنى، وأن يمضي في حجة الفاسد، وعليه الحج من قابل، وعليه أن يحج بامرأته الَّتِي أفسد عليها حجها).
/229/ وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (5) و(المنتخب) (6) غير ما قلنا به من أنَّه يحج بامرأته، فإنه منصوص عليه في (الأحكام) دون (المنتخب).
__________
(1) ـ في (ب): تلزمه.
(2) ـ انظر الأحكام 1/308 ، 809 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ في (ب): إلى.
(4) ـ في (أ): بطل.
(5) ـ انظر الأحكام 1/299.
(6) ـ انظر المنتخب 103 وهو بلفظ قريب.(45/4)


والأصل في ذلك أنَّه مروي عن غير واحد من الصحابة من ذلك: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: ((إذا وقع الرجل على امرأته، وهما محرمان، تفرقا حتَّى يقضيا مناسكهما، وعليهما الحج من قابل، ولا ينتهيا إلى ذلك المكان الذي أصابا الحدث(1) فيه إلاَّ وهما محرمان، فإذا انتهيا إليه، تفرقا حتَّى يقضيا مناسكهما، وينحرا عن كل واحد منهما هدياً))، وفي كتاب أبي خالد الحديث على وجهة، إلا أنه قال: وينحر كل واحد منهما هدياً.
وروى ابن أبي(2) شيبة، حدثنا حفص، عن أشعت، عن الحكم، عن علي عليه السلام قال: ((على كل واحد منهما بدنة، فإذا حجا من قابل، تفرقا من المكان الذي أصابها فيه.
وروى ابن أبي(3) شيبة ـ بإسناده ـ عن مجاهد أنَّه سئل عن المحرم يقع على امرأته فقال: كان ذلك على عهد عمر فقال: ((يقضيان حجهما، والله أعلم بحجهما، ثُمَّ يرجعان حلالان كل واحد منهما لصاحبه، فإذا كان من قابل، حجا، وأهديا، وتفرقا من المكان الذي أصابها فيه)). وروى ابن أبي شيبة(4) ـ بإسناده ـ عن ابن عباس أنَّه قال: ((الله أعلم بحجكما، امضيا لوجهكما، وعليكما الحج من قابل، فإذا انتهيت إلى المكان الذي واقعت فيه، فتفرقا، ثُمَّ لا تجتمعا حتَّى تقضيا حجكما.
__________
(1) ـ في (ب): فيه الحدث.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/164.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/164 وإسناده: حدثنا ابن عيينة، عن يزيد بن يزيد، به.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/164 وإسناده: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز، عن عبد الله بن وهبان، به.(45/5)


وروي أيضا(1) ـ بإسناده ـ عن ابن عباس وابن عمر، في محرم وقع على امرأته أنَّه قد أبطل حجه، ويخرج مع الناس، فيصنع ما يصنعون. وأن عبد الله بن عمرو قال: مثل قولهما. فلما روى ذلك عن هولاء الجماعة من الصحابة، ولم يرو خلافه، عن أحد منهم، كان إجماعاً، فلذلك قلنا: قد أفسد حجه، وعليه الحج من قابل.
فإن قيل: ففي حديث عمر، وإحدى الروايتين، عن ابن عباس: ((الله أعلم بحجكما))، فلم يحكما بفساده.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد بذلك الله اعلم بثوابه، وحكمه في الآخرة، وقد أطبقا على إيجاب الحج عليه، فدل ذلك على أن الأول لم يقع موقع الصَّحيح، على أنه لا خلاف أنَّه إذا جامع قبل الوقوف أن حجه فاسد، وعليه الحج من قابل، واختلفوا إذا جامع بعد، ذلك، فمذهب أبو حنيفة إلى أن حجه قد تم، وعليه بدنة، وعند يحيى عليه السلام أنَّه إذا جامع قبل أن يرمي جمرة العقبة، بطل حجه، وهو مذهب الشافعي.
والأصل في ذلك أن الصحابة الذين أفتوا بفساد حجه، وإيجاب الحج عليه من قابل، لم يفصلوا بين أن يكون ذلك قبل الوقوف، أو بعده، فوجب أن يستوي الحكم فيه، كما يستوي لو كان ذلك قبل طواف القدوم، والسعي، أو بعدها.
ومما يعتمد في هذا الباب ما(2) أجمعنا عليه من أنَّه لو جامع قبل الوقوف بطل حجه، وكذلك(3) إذا جامع قبل الرمي، والمعنى أن جماعه صادف إحراماً مطلقاً، ولا خلاف أن قتل الصيد، والتطيب، واللمس، لما مُنع منه، وجب أن /230/ يستوي حكم فِعلهما قبل الوقوف، وبعده إلى أن يرمي، فوجب أن يكون الجماع كذلك، أو بعلة أنَّه محظور بالإحرام.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/164.
(2) ـ في (ب): مما.
(3) ـ في (ب): فكذلك.(45/6)


فإن قاسوا الوطء قبل الرمي، عليه بعد الرمي بعلة أنَّه وطء بعد الوقوف، كان قياسنا أولى؛ لأن الأصل الذي رددنا إليه أصلٌ متفق عليه بين الأمة، والأصل الذي ردوا إليه فيه خلاف على ما نبينه من بعد [إن شاء الله تعالى] (1)، فكان القياس المستنِد إلى النص، أو ما يجري مجراه من الإجماع، أولى من القياس المستند إلى الاجتهاد، على أن قياسنا موجِب، فهو أولى، كالخاص، وتشهد العبادات لقياسنا، ألا ترى أن الجماع لما كان مبطلاً للصيام، والاعتكاف، كان لا فصل يبن وقوع الجماع في أولهما وآخرها. فإن ادعوا أن قياسهم مستند إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحج عرفة، فمن أدرك عرفة، فقد أدرك الحج)).
قيل له: هذا لا يمنع من طرو الفساد عليه، كما أن قوله: ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر)) لا يمنع من طرو الفساد عليه، وإنَّما المراد [به] (2) لا تفوت من جهة الوقت على شرط السلامة، على أن قياسنا مستند إلى قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} فما يحصل فيه الرفث، لا يكون حجاً.
فإن قيل: إذا أمن فواته من جهة الوقت، فيجب أن يأمن من فواته من جهة الفساد.
قيل له: لا يمتنع أن يأمن الفوات من جهة الوقت، وإن لم يأمن الفوات من جهة الفساد كالعمرة؛ لأنها لا تفوت من جهة الوقت [وتبطل بالفساد] (3).
فإن قيل: قد علمنا أن النسك الذي بين الوقوف وطواف الزيارة لو عدم، لم يبطل الحج، فوجب أن لا يبطل بطرو الفساد عليه؛ لأن ما لا يبطل الحج عدمه، ففساده أولى ألا يبطله.
قيل له: لسنا نسلم ما ادعيت من الأصل، وذلك أن بقاء الإحرام إلى أن يرمي جمرة العقبة من النسك الذي ذكرت، وعندنا أن ما أبطله، أبطل الحج، فكيف يصح ما اعتمدته.؟
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ سقط من (أ).(45/7)


فإن قيل: أليس إذا فات الرمي بفوات وقته، ثُمَّ جامع، لم يبطل حجه، فما أنكرتم أن يكون الجماع قبل الرمي لا يبطله؟
قيل له: لا يستوي الوقتان؛ لأن الوقت الذي يفوت فيه الرمي يكون الإحرام قد انحل فيه، فيكون سبيله سبيل من رمى، ألا ترى أن له أن يتطيب، ويلبس، ويصيد، وقبل وقت الرمي الأول يكون على كمال إحرامه، فكذلك وجب أن يكون الجماع فيه مبطلاً للحج، وهذا مما يقوي ما ذكرناه من القياس، ألا ترى أن الجماع لما لم يصادف إحراماً مطلقاً عند فوات الرمي، لم يبطل الحج. فأما إيجاب البدنة، فهو قول الشافعي. وأبو حنيفة يقول: إن جامع قبل الوقوف أجزأه دم شاة، وإن جامع بعد الوقوف، لزمته بدنة.
والأصل فيما ذهبنا إليه قول علي عليه السلام على كل واحد منهما بدنة، ولا مخالف له فيه من الصحابة، ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أنَّه إذا جامع بعد الوقوف، لزمته بدنة، فكذلك إذا جامع قبل الوقوف، والمعنى أنَّه جماع صادف إحراماً مطلقاً، وهو قياس سائر ما حضرة الإحرام من الطيب وغيره من أن كفارته لا تتغير بوقوعه قبل الوقوف، أو بعده.
فإن قيل: لا يجتمع عليه تغليظ في الدم، وتغليظ في الإفساد.
قيل له: لم قلت ذلك؛ وما تنكر من ذلك إذا دلت الدلالة عليه؟ على أن الأصل في الجنايات أنَّها إذا عظمت، كان تغليظ كفاراتها أولى، فكان الواجب على هذا أن يكون الوطء الذي يبطل الحج بالتغليظ أولى؛ لأنَّه في باب الجنايات أعظم، على أنَّه لا فصل عندنا على ما بيناه بين الجماع قبل الوقوف /231/ وبعده، في إفساد الحج، فلا سؤال علينا فيه. وأما ما قلناه من أنَّه يحج بامرأته الَّتِي أفسد عليها حجها، فالمراد به إذا(1) كانت مكرَهة، فأما إذا طاوعت فهي الَّتِي أفسدت على نفسها الحج دون الزوج. وما ذهبنا إليه في المكرهة قول عطاء.
__________
(1) ـ في (ب): إن.(45/8)

53 / 142
ع
En
A+
A-