فيكون ما روي من قولها عند إحرامه، وحين إحرامه، محمولاً عند قرب إحرام، وحين قرب إحرامه. يؤكد هذا التأويل ويوضحه: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو غسان، حدثنا أبو عوانة، عن إبراهيم بن المنتصر، عن أبيه، قال: سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال: ((ما أحب أن أصبح محرماً ينضح مني ريح المسك)) (1)، فأرسل ابن عمر بعض بنيه إلى عائشة ليسمع ما قالت: فقال: قالت عائشة: ((أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ طاف بنسائه، فأصبح محرماً)) فدل هذا الجبر على أن التطيب كان قبل الإحرام، والاغتسال توسط بينه وبين الإحرام؛ لأنَّه لا يجوز أن يكون طاف على نسائه ولم يغتسل، ولا خلاف أنَّه لو أحرم، وعليه قميص، فالواجب عليه إزالته، وكذلك الطيب، والمعنى انه إذا استعمله في الإحرام على الوجه المحظور، وجبت إزالته، أو يقال: إن إماطته تجب إذ طرأ على الإحرام، فكذلك إذا طرأ عليه الإحرام، دليله اللباس.
فإن شبهوه بالحلق في أنَّه يجوز طرو الإحرام عليه، وإن لم يجز طروه على الإحرام، كان الطيب باللباس أشبه؛ لأنَّه مما يَتَأَتَّى الإزالة فيه، والحلق مما لا يتأتى الإزالة فيه، كذلك إذا طرأ على الإحرام لم يكن للإزالة فيه حكم، على أن الشعر إزالته محظورة في الإحرام، والطيب مثل اللباس استعماله هو المحظور، فكان حكم الشعر على الضد من حكم الطيب، فكان ما ذكرناه أولى، على أن المحرم غير ممنوع من جميع التصرف في الطيب من نحو الشراء، والبيع، والإمساك، وما جرى مجراه، وإنَّما المحظور(2) كالقميص، والسراويل، والقلنسوة، والخف.
مسألة [في الخاتم هل هو من لاحلي؟ وفي المحرم يغسل ثيابه، أو يحك رأسه، أو يلبس الهميان]
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/132 وفيه إبراهيم بن محمد المنتشر.
(2) ـ هو التنعم فقط سواءً طرأ الإحرام عليه أو طرأ هو على الإحرام، فيجب أن يكون التنعم به محظوراً.(44/43)
قال القاسم عليه السلام: وليس الخاتم من الحلي، ولا بأس للمحرم بغسل ثيابه، وإن أيقن أن فيها دواب تلفت لغسله، يصدق بقدر ما يرى. قال: ويجوز له أن يحك رأسه، وبدنه، ولكن برفق؛ لكيلا يقطع شعراً، ولا بأس بلبس الهميان له. وجميعه منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
وجه ما قال أن الخاتم ليس من الحلي، أن الحلي لا يجوز لبسه للرجال، ولا بأس لهم بلبس الخواتيم.
وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، قال: لا بأس بالخاتم للمحرم(1).
وروى نحوه، عن عطاء، ومجاهد، وسالم بن عبد الله. وقلنا: لا بأس للمحرم بغسل ثيابه؛ لأنَّه من الطهارة، ولا خلاف فيه.
وقد رواه(2) ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، وابن عمر، وجابر، وعطاء، وإبراهيم.
فأما وجه ما ذكرنا من أن الدواب لو تلفت بغسله، تصدق، فقد مضى من قتل المحرم للقمل ما لا غرض في إعادته. ولا خلاف أن المحرم غير ممنوع من حك جسده، وقلنا: برفق، لئلا يقطع شعراً؛ لأن قطع /227/ الشعر قد منع المحرم منه، وقد مضى القول فيه. وقلنا: لا بأس له بلبس الهميان؛ لأن عقده ليس بأكثر من عقد الإزار.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن حجاج، قال: سألت أبا جعفر، وعطاء، عن الهميان للمحرم فقالا: لا بأس به.
وروي نحوه عن عائشة، وعن طاووس، وعن سالم، والقاسم، وسعيد بن جبير(3).
__________
(1) ـ أخرجه عنهم ابن أبي شيبة في المصنف 3/283.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة عنهم في المصنف 3/352.
(3) ـ أخرجه ابن أبي شيبة عنهم في المصنف 3/410.(44/44)
باب القول فيما يجب على المحرم من الكفارات
[مسألة: في المحرم يلبس ولا يجوز له، وفي مقدار الفدية، وفي استعمال المحرم لدواء فيه طيب]
إذا احتاج المحرم إلى لبس ثياب لا يجوز له لِبسُها لعلة من العلل، لَبِسَها، وعليه الفدية، والفدية صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مدان من الطعام، أو دم يريقه، وأقل ذلك شاة، وكذلك إن(1) احتاج إلى دواء فيه مسك ساطع الريح، أو نحوه، وكذلك إن احتاج إلى لبس العمامة أو(2) الخف. وهذا جميعه منصوص عليه في (الأحكام) (3) غير تقدير الإطعام فإنه منصوص عليه في (المنتخب) (4)، ونص ـ أيضاً ـ فيه على ما ذكرنا من حكم اللباس.
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ..} الآية، وحديث كعب بن عجرة في رواية بن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم(5) قال له حين آذاه [هوام] (6) رأسه فقال: أذبح شاةً نسكاً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، بين كل مسكينين صاع من بر.
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام فيمن أصابه أذى من رأسه، فحلقه، يصوم ثلاثة أيام، وإن شاء أطعم ستة مساكين لكل مسكين من نصف صاع من بر، وإن شاء نسك بشاة يذبحها.
وقد ذكر ذلك أبو حنيفة بيوم، وحكي عنه أكثر اليوم، وذلك لا معنى له؛ لأن الحكم تعلق باللبس، والطيب، دون زمان بقائهما، فاليوم فيه كالساعة، وإذا اتفقنا على إيجاب الفدية على من لبس، أو تطيب يوماً، كان ما دونه قياساً عليه، والمعنى أنَّه حصل لابساً أو متطيباً على سبيل العمد في الإحرام، على أن ما ذهبوا إليه تقدير لم يرد توقيف به، فوجب سقوطه.
__________
(1) ـ في (ب): إذا.
(2) ـ في (ب): و.
(3) ـ انظر الأحكام 1/277 ـ 278 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ انظر المنتخب 97 وهو بلفظ قريب.
(5) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/235، وقال فيه: صاعاً من تمر.
(6) ـ سقط من (ب).(45/1)
مسألة [في المحرم يلبس أكثر من محظور من اللباس في وقت واحد، أو أوقات متفرقة، وفي حلق الرأس]
قال: وإن احتاج إلى لبس جميع ما ذكرنا في وقت واحد، لزمته فدية واحدة، وإن احتاج إلى لبسهما جميعاً(1) في أوقاتٍ متفرقة، فعليه للبس الرأس فدية، وللبس البدن فدية، وللبس القدمين فدية، وكذلك إن احتاج إلى حلق رأسه، فحلق، ففيه فدية. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2) و(المنتخب) (3). قلنا: إنَّه إذا جمع لباس البدن كله في وقت واحد، كان عليه فدية واحدة؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه لو طيب جسده كله، أو أزال التفث كله عن جسده في وقت واحد، فليس عليه إلاَّ فدية واحدة، وكذلك لا خلاف أنَّه إذا حلق رأسه كله، فعليه فدية واحدة، وإن كان حلق في وقت بعضه، وفي وقت آخر بعضه، لزمه لكل حلق فدية، وإنَّما كان ذلك كذلك؛ لأنَّه جنس واحد مجموع في وقت واحد، فوجب أن يكون لو غطى رأسه، وبدنه(4) ورجليه، في وقت واحد لا يلزمه إلاَّ فدية واحدة، وهذا مما يوافقنا عليه أبو حنيفة، والشافعي، ويؤكد ذلك أن الجسد كله فيما يختص من الحكم في وقت واحد يصير بمنزلة عضو واحد في الإتلاف، وفي الاغتسال، ألا ترى أنَّه لو أتلف، كانت له دية واحدة، ولو أتلفت له أعضاء متفرقة، كانت لكل عضو دية، وكذلك الغسل لا ترتيب فيه كالعضو الواحد، والماء /228/ لا يصير مستعملاً إلاَّ إذا كان ذلك في الوضوء(5) الذي يختص بعض الأعضاء. فأما إذا لبس هذه الملابس في أوقات متفرقة، فحكي عن الشافعي فيه قولان:
أحدهما أن عليه كفارة واحدة. والآخر مثل قولنا.
__________
(1) ـ في (أ): إلى لبسها أوقات.
(2) ـ انظر المنتخب 96 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر الأحكام 1/278، 308، 309 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ في (أ): ويديه.
(5) ـ في (ب): العضو.(45/2)
والأصل فيه: أن لبس الرأس له حكم على الإنفراد، وكذلك لبس البدن، ولبس القدمين؛ لأنَّه إذا أتى بكل واحدٍ فيه على الانفراد، لزمت له فدية، وهذا مما لا خلاف فيه، فإذا أتى بكل واحد منفرداً في وقت واحد، فإتيانه بالآخر في وقت آخر، لا يمنع أن يجب لكل واحد منهما فدية، دليله: إذا كان ما توجبه الفدية من جنسين، وليس يعترض على ذلك إذا فعل ذلك أجمع في وقت؛ لأن ذلك يكون لبسة واحدة، ألا ترى أن من حلف ألا يلبس في هذا اليوم إلاَّ لبسة واحدة، فلبس لباس الرأس، والبدن، والقدمين أجمع في وقت واحد، لم يحنث، وإن لبس لباس البدن، ثُمَّ لبس في وقت آخر منفصل عنه لباس اليدين، أو لباس القدمين، حنث، وكذلك من حلف ألا يأكل إلاَّ أكلة واحدة، فأكل ما شاء في وقت واحد، فإنه لا يحنث، ولو أنَّه فرق ذلك المأكول بعينه، فأكل بعضه في وقت، ثُمَّ أكل الباقي في وقت آخر، حنث، فبان أن الأفعال إذا وقعت في حالة واحدة، ووقت واحد، تصير كالشيء الواحد، إذا كانت من جنس واحد، وإذا فُرِّقت في الأوقات الكثيرة، لم يكن لها ذلك الحكم.
فإن قيل: أليس كفارة اليمين عندكم تتداخل إذا كانت من جنس واحد، وإن وقعت الإيمان في أوقات متفرقة.
قيل له: الكفارات عندنا لا تتداخل، وإنما الواجب فيما ذكرت كفارة واحدة؛ لأن الموجب للكفارة عندنا الحنث، والحنث حنث واحد، فلم يجب فيه إلاَّ كفارة واحدة.وما ذكرناه من إيجاب الفدية في حلق الرأس، فلا خلاف فيه، والأصل فيه ما قدمناه من الآية والخبر.
مسألة [في المحرم يلبس أنواع لباس البدن، أو أنواع لباس الرأس، أو أنواع لباس القدمين، سواء في وقت واحد أو متفرق]
قال: وإذا لبس المحرم قميصاً، ثُمَّ لبس بعد ذلك جبة، أو سراويل، أو قباء، أو درعاً، أو غير ذلك، أجزته كفارة واحدة، لبس ذلك معاً، أو متفرقاً.(45/3)