قال القاسم عليه السلام: ولا بأس للمحرم أن يغتسل، ويستاك، ولكن لا يغمس رأسه في الماء. وقال في الجراد، والقراد لا يقتلهما، فإن قتلهما، تصدق بشيء من الطعام، كفاً، أو أقل، أو أكثر. وقال في القملة، والبعوضة: إن قتلهما لضررهما، فلا /224/ شيء عليه، وإن قتلهما لغير ذلك تصدق بشيء من الطعام. قال: ولا بأس للمحرم الْمُصَدِّع أن يعصب جبينه بخرقة. جميعه منصوص عليه في (مسائل النيروسي). قلنا: لا بأس للمحرم بالإغتسال، والإستياك؛ لأنَّه لا خلاف فيه، والإغتسال قد يكون فرضاً، وقد يكون سنة مؤكدة، فلا يجوز تركه، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} فلم يخص حالاً من حال، والإستياك أيضاً منه، ولم يَرِد فيه كراهة للمحرم.
وروى ابن أبي(1) شيبة، عن وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، قال: سألت محمد بن علي عليهما السلام، وعامراً، وعطاء، وطاووساً، ومجاهداً، وسالماً، والقاسم، وعبد الرحمن بن الأسود، فلم يروا به بأساً. وقلنا: لا يغمس رأسه في الماء؛ لأنَّه يكون قد غطاه بما مسه، وقد مُنِع المحرم عن ذلك. وقتل الحرشات قد مضى الكلام فيه. وقلنا: لا بأس للمحرم أن يعصب جبينه؛ لأن الجبين من الوجه حكماً، والمأخوذ عليه كشف الرأس على ما نص عليه في (المنتخب) (2) خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن إحرام الرجل في وجهه ورأسه، وقال الشافعي فيه مثل قولنا.
والأصل فيه حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها)).
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/133.
(2) ـ انظر المنتخب 97 وهو بلفظ قريب.(44/38)


وروى ابن أبي(1) شيبة بإسناده عن الفرافصة بن عمير، قال: رأيت عثمان وزيداً، وابن الزبير يغطون وجوههم، وهم محرمون، إلى قصاص الشعر. وقد روى(2) أيضاً ـ بإسناده ـ عن ابن طاووس، عن أبيه، أنَّه كان إذا نام غطى وجهه إلى أطراف شعره. فهذه الأخبار كلها تدل على ما ذهبنا إليه؛ لأن هولاء النفر من الصحابة، إذا رُوى عنهم، ولم يُحفظ عن غيرهم خلافه، جرى مجرى الإجماع منهم، على أنا نذهب إلى أن علياً عليه السلام إذا قال قولاً، وجب اتباعه، على أني وجدت في تعليق ابن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها))، فإن ثبت ذلك، فلا قول إلاَّ ما ذهبنا إليه، والمشهور أن المحرم الذي وقصته ناقته أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يغطى رأسه.
فإن قيل: فقد روي ((ولا وجهه)).
قيل له: الأول أشهر، فإن ثبتت الرواية الثانية، فيجوز أن يكون المراد بها ما يتصل من الوجه بالرأس.
فإن قاسوا وجه الرجل على وجه المرأة، بعلة أنَّه وجه محرم، فوجب أن يتعلق عليه الإحرام.
قيل له: والرجل شخص محرم، فوجب أن لا يتعلق الإحرام على عضوين منه، دليله سائر البدن، والمعنى أنَّه عضو لا يتعلق عليه حكم الخلاف ممَّن يلزمه حكم الخلاف.
فإن قيل: هو إذا عصب جبينه، عصب معه مؤخر رأسه.
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/285 وإسناده حدثنا أبو معاوية، عن ابن جريج، عن عبد الرحمن بن القاسم، به.
(2) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/285 وإسناده حدثنا وكيع عن إبراهيم، به.(44/39)


قيل له: عليه أن ينزل العصابة عن رأسه إلى قفاه؛ لئلا يكون قد عصب رأسه، وقد نص على ذلك القاسم عليه السلام، فقال: ويكره له عصب الجمجمة لما يغطي العصابة من رأسه وشعره. وروى ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ عن عطاء أنَّه سئل عن المحرم يصدع رأسه فقال: يعصب رأسه إن شاء(1).
مسألة [في التطيب عند الإحرام]
قال القاسم عليه السلام: ولا يتطيب عند الإحرام. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي). وخالف في ذلك أبو حنيفة، والشافعي، وحكي عن مالك، ومحمد، مثل قولنا.
والأصل في ذلك: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، قال: سمعت قيس بن سعد، يحدث عن عطاء، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه، أن رجلاً أتى /225/ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجعرانة، وعليه جبة، وهو مُصْفَرُّ اللحية والرأس، فقال يا رسول الله: إني قد أحرمت وأنا كما ترى. قال: ((أنزع عنك الجبة، وأغسل عنك الصفرة، وما كنتَ صانعاً في حجتك؛ فاصنعه في عمرتك)) وفي بعض الأخبار: ((اغسل عنك اثر الخلوق، والصفرة)) (2).
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون أمره صلى الله عليه وآله وسلم بغسله؛ لأنَّه كان صفرة، لا لأنَّه كان طيباً، والصفرة تكره للمحرم والمحل(3)، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التزعف للرجال.
وعن أنس: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التزعفر.
__________
(1) ـ أخرجه ابن ابي شيبة في المصنف 3/184 وإسناده حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الملك، به.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/126 وفيه زيادة: وعليه جبة صوف.
(3) ـ في (ب): للمحل والمحرم.(44/40)


قيل له: ظاهر الخبر يدل على أنَّه أمره بغسله للإحرام؛ لأن الرجل أتاه، فقال له: أنا محرم، وأنا كما ترى، فقال له: افعل كذا وكذا، وما كنتَ صانعاً في حجتك، فاصنعه في عمرتك، فصار الكلام على أحكام الإحرام، ولو كان ذلك لغير الإحرام، لَبيَّن ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، ودل عليهـ على أن الصفرة قد ورد فيها ما يدل على خلاف ما ذكروا.
[و](1) روى أبو داود في (السنن)، حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنهي، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، أن ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة، حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة، فقيل له: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بها [لحيته] (2) كلها حتَّى عمامته. ويحتمل النَّهي الوارد عن التزعفر أن يكون المراد به في حال الإحرام، فإذا ثبت ما ذكرناه في الصفرة، ثبت أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الرجل بغسل ما كان على لحيته وثيابه لأجل الإحرام، فدل ذلك على أن الطيب عند الإحرام غير جائز.
وروى أن عمر وجد ريح طيب، وهو بذي الحليفة، فقال: ممَّن هذا؟ فقال معاوية: مني. فقال عمر: منك لعَمري، فقال: لا تعجل علي، فإن أم حبيبة طيبتني، وأقسمت علي، قال: ((أنا أقسم عليك، فلترجع إليها، فلتغسله عنك)) فرجع إليها، فغسلته. فدل إنكاره على معاوية، وإقسامه عليه ليغسله علىأمنه قال: ذلك توقيفاً ؛ لأن ما طريقه الإجتهاد لا يجوز أن يُنكَر على من خالفه. وعن عثمان أنَّه رأى رجلاً بذي الخليفة يريد أن يحرم، وقد دهن رأسه، فأمر به، فغسل رأسه بالطين.
فإن قيل: روي عن عاشة أنَّها قالت: كأني أنظر إلي وبيض الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو محرم.
__________
(1) ـ سقط من (أ).
(2) ـ سقط من (أ) و (ب).(44/41)


قيل له: يحتمل ذلك أن تكون رأته بعد ما رمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمرة العقبة، فأرادت بقولها: ((هو محرم)) أن حكم الإحرام كان باقياً عليه، فقد روي ما يوضح هذا التأويل: عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّه قال: ((إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء إلاَّ النساء))، فقال له رجل: والطيب. فقال: أما أنا، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أو طيب(1) هو؟ ويحتمل أيضاً أن يكون أجزاء بقيت من الطيب في رأسه بعدما غسل، وذهبت رائحته. ويحتمل أيضاً أن تكون تلك الأجزاء بقيت وهو لا يعلم ذلك كما روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم اغتسل، فبقيت لمعة من جسده، ولا شك أنَّها بقيت وهو لا يعلم ذلك.
فإن قيل: روي عن عائشة أنَّها قالت: طيبت، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعالية. وروي طيبته لإحرامه.
قيل له: ليس في الحديث أنَّها فعلت ذلك بأمره صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أنَّه استيقن ذلك، ولم يمطه، ويجوز أن تكون طيبته /226/ قبل إحرامه، ثُمَّ لما أراد صلى الله عليه وآله وسلم الإحرام، غسله عن نفسه، فقد روي أيضاً أنها قالت: طيبته قبل أن يحرم.
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي(2)، حدثنا علي بن معبد، حدثنا شجاع بن الوليد، حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثني القاسم، عن عائشة أنَّها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي لإحرامه قبل أن يحرم.
__________
(1) ـ في (ب): أفطيب.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/130.(44/42)

51 / 142
ع
En
A+
A-